البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّٗا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا} (110)

خافت بالكلام أسره بحيث لا يكاد يسمعه المتكلم وضربه حتى خفت أي لا يسمع له حس .

قال ابن عباس : تهجد الرسول صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده : «يا رحمن يا رحيم » .

فقال المشركون : كان محمد يدعو إلهاً واحداً فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن ، ما الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة فنزلت قاله في التحرير .

ونقل ابن عطية نحواً منه عن مكحول .

وقال عن ابن عباس : سمعه المشركون يدعو يا الله يا رحمن ، فقالوا : كان يدعو إلهاً واحداً وهو يدعو إلهين فنزلت .

وقال ميمون بن مهران : كان عليه السلام يكتب : باسمك اللهم حتى نزلت إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتبها فقال مشركو العرب : هذا الرحيم نعرفه ، فما الرحمن ؟ فنزلت : وقال الضحاك : قال أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ، فنزلت لما لجوّا في إنكار القرآن أن يكون الله نزله على رسوله عليه السلام وعجزوا عن معارضته ، وكان عليه الصلاة والسلام قد جاءهم بتوحيد الله والرفض لآلهتهم عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه ، فردّ الله تعالى عليهم بقوله { قل ادعوا الله } الآية .

والظاهر من أسباب النزول أن الدعاء هنا قوله يا رحمن يا رحيم أو يا الله يا رحمن من الدعاء بمعنى النداء ، والمعنى : إن دعوتم الله فهو اسمه وإن دعوتم الرحمن فهو صفته .

قال الزمخشري : والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدّى إلى مفعولين ، تقول : دعوته زيداً ثم تترك أحدهما استغناءً عنه ، فتقول : دعوت زيداً انتهى .

ودعوت هذه من الأفعال التي تتعدّى إلى اثنين ثانيهما بحرف جر ، تقول : دعوت والدي بزيد ثم تتسع فتحذف الباء .

وقال الشاعر في دعا هذه :

دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن . . . ***أخاها ولم أرضع لها بلبان

وهي أفعال تتعدى إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر ، يحفظ ويقتصر فيها على السماع وعلى ما قال الزمخشري يكون الثاني لقوله { ادعوا } لفظ الجلالة ، ولفظ { الرحمن } وهو الذي دخل عليه الباء ثم حذف وكأن التقدير { ادعوا } معبودكم بالله أو ادعوه بالرحمن ولهذا قال الزمخشري : المراد بهما اسم المسمى وأو للتخيير ، فمعنى { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } سموا بهذا الاسم أو بهذا ، واذكروا إما هذا وإما هذا انتهى .

وكذا قال ابن عطية هما اسمان لمسمى واحد ، فإن دعوتموه بالله فهو ذاك ، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك وأي هنا شرطية .

والتنوين قيل عوض من المضاف و { ما } زائدة مؤكدة .

وقيل : { ما } شرط ودخل شرط على شرط .

وقرأ طلحة بن مصروف .

{ أياً } من { تدعوا } فاحتمل أن تكون من زائدة على مذهب الكسائي إذ قد ادّعى زيادتها في قوله :

يا شاة من قنص لمن حلت له . . .

واحتمل أن يكون جمع بين أداتي شرط على وجه الشذوذ كما جمع بين حرفي جر نحو قول الشاعر :

فأصبحن لا يسألنني عن بما به . . .

وذلك لاختلاف اللفظ .

والضمير في { فله } عائد على مسمى الاسمين وهو واحد ، أي فلمسماهما { الأسماء الحسنى } ، وتقدم الكلام على قوله { الأسماء الحسنى } في الأعراف .

وقوله : { فله } هو جواب الشرط .

قيل : ومن وقف على { أياً } جعل معناه أي اللفظين دعوتموه به جاز ، ثم استأنف فقال ما تدعوه { فله الأسماء الحسنى } وهذا لا يصح لأن ما لا تطلق على آحاد أولي العلم ، ولأن الشرط يقتضي عموماً ولا يصح هنا ، والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس وعائشة وجماعة .

وعن ابن عباس أيضاً : هي قراءة القرآن في الصلاة فهو على حذف مضاف أي بقراءة الصلاة ، ولا يلبس تقدير هذا المضاف لأنه معلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير ، والصلاة أفعال وأذكار وكان عليه الصلاة والسلام يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركين ، وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين .

{ وابتغ بين ذلك } أي بين الجهر والمخافتة { سبيلاً } وسطاً وتقدم الكلام على { بين ذلك } في قوله { عوان بين ذلك } وقال ابن عباس أيضاً والحسن : لا تحسن علانيتها وتسيء سرّيتها .

وعن عائشة : الصلاة يراد بها هنا التشهد .

وقال ابن سيرين : كان الأعراب يجهرون بتشهدهم فنزلت الآية في ذلك ، وكان أبو بكر يسرّ قراءته وعمر يجهر بها .

فقيل لهما في ذلك فقال أبو بكر : إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي .

وقال عمر : أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزلت قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلاً .

وقيل لعمر : اخفض أنت قليلاً .

وعن ابن عباس أيضاً : المعنى { ولا تجهر } بصلاة النهار { ولا تخافت } بصلاة الليل .

وقال ابن زيد : معنى الآية على ما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحياناً فيرفع الناس معه ، ويخفض أحياناً فيسكت الناس خلفه انتهى .

كما يفعل أهل زماننا من رفع الصوت بالتلحين وطرائق النغم المتخذة للغناء .