البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا} (97)

خبت النار تخبو : سكن لهبها وخمدت سكن جمرها وضعف وهمدت طفئت جملة .

قال الشاعر :

أمن زينب ذي النار قبيل الصبح***ما تخبو إذا ما أخمدت ألقى عليها المندل الرطب

وقال آخر :

وسطه كاليراع أو سرج المجدل . . . ***طوراً يخبو وطوراً ينير

والظاهر أن قوله : { ومن يهد الله } إخبار من الله تعالى وليس مندرجاً تحت { قل } لقوله { ونحشرهم } ويحتمل أن يكون مندرجاً لمجيء { ومن } بالواو ، ويكون { ونحشرهم } إخباراً من الله تعالى .

وعلى القول الأول يكون التفاتاً إذ خرج من الغيبة للتكلم ، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله ، ولجوّا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل ، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة .

وقال الزمخشري : { ومن يهد الله } ومن يوفقه ويلطف به { فهو المهتدي } لأنه لا يلطف إلاّ بمن عرف أن اللطف ينفع فيه { ومن يضلل } ومن يخذل { فلن تجد لهم أولياء } أنصاراً انتهى .

وهو على طريقة الاعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل ، وحمل على اللفظ في قوله { فهو المهتدي } فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهي واحدة فناسب التوحيد التوحيد ، وحمل على المعنى في قوله { فلن تجد لهم أولياء } لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع ، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداءً من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن ، والظاهر أن قوله { على وجوههم } حقيقة كما قال تعالى { يوم يسحبون في النار على وجوههم } الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم .

وفي هذا حديث قيل : " يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ قال : «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه » " قال قتادة : بلى وعزة ربنا .

وقيل : { على وجوههم } مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائباً مهموماً انصرف على وجهه ، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه .

وقيل : هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا .

والظاهر أن قوله { عمياً وبكماً وصماً } هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم .

وقيل : هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات ، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة .

وقال الزمخشري : كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى .

وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى { عمياً } عما يسرهم ، { بكماً } عن التكلم بحجة { صماً } عما ينفعهم .

وقيل : { عمياً } عن النظر إلى ما جعل الله لأوليائه ، { بكماً } عن مخاطبة الله ، { صماً } عما مدح الله به أولياءه ، وانتصب { عمياً } وما بعده على الحال والعامل فيها { نحشرهم } .

وقيل : يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله { قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فعلى هذا تكون حالاً مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارناً لهم وقت الحشر .

{ كلما خبت } قال ابن عباس : كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير ، فالزيادة في حيزهم ، وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور ، فعلى هذا يكون { خبت } مجازاً عن سكون لهبها مقدار ما تكون إعادتهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها ، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد ، وقد دل على ذلك بقوله { ذلك جزاؤهم }