البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

و { إذ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض والاعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي ، وما معطوف على المفعول في { اعتزلتموهم } أي واعتزلتم معبودهم و { إلاّ الله } استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله { وما يعبدون إلاّ الله } .

وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله .

وقال هذا أيضاً الفرّاء ، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم .

وفي مصحف عبد الله { وما يعبدون } من دوننا انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى .

وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم { وما يعبدون } من دون الله وليس ذلك قرآناً لمخالفتها لسواد المصحف ، ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو { وما يعبدون إلاّ الله } .

وقيل : { وما يعبدون إلاّ الله } كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى ، فعلى هذا { ما } فيه و { إلاّ } استثناء مفرغ له العامل .

{ فأووا إلى الكهف } أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه .

وقوله { ينشر } فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف ، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه ، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيئ لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا .

قال ابن عباس : { ويهيئ لكم } يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف .

وقال ابن الأنباري : المعنى { ويهيئ لكم } بدلاً من أمركم الصعب { مرفقاً } .

قال الشاعر :

فليت لنا من ماء زمزم شربة***مبردة باتت على طهيان

أي بدلاً من ماء زمزم .

وقال الزمخشري : إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم ، وإما أن يخبرهم به نبيّ في عصرهم ، وإما أن يكون بعضهم نبياً .

وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه ، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء .

وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة والأعمش وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء مرفقاً لأن جميعاً في الأمر الذي يرتفق به ، وفي الجارحة ، حكاه الزجّاج وثعلب .

ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلاّ كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلاّ بفتح الميم وكسر الفاء ، وخالفه أبو حاتم وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد .

وقال أبو زيد : هو مصدر كالرفق جاء على مفعل .

وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به وإما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير ، وعن الفراء أهل الحجاز يقولون { مرفقاً } بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان ، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعاً انتهى وأجاز معاذ فتح الميم والفاء .