البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (115)

المشرق والمغرب : مكان الشروق والغروب ، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل ، بكسر العين شذوذاً ، والقياس الفتح ، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعه ، فقياس صوغ المصدر منه ، والزمان والمكان مفعل ، بفتح العين .

أين : من ظروف المكان ، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه ، وفي الشرط معنى حرفه ، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما ، ومما جاء فيه شرطاً بغير ما قوله :

أين تضرب بنا العداة تجدنا***

وزعم بعضهم أن أصل أين : السؤال عن الأمكنة .

ثم : ظرف مكان يشار به للبعيد ، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة ، وهو لازم للظرفية ، لم يتصرف فيه بغير من يقول : من ثم كان كذا .

وقد وهم من أعربها مفعولاً به في قوله : { وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً } بل : مفعول رأيت محذوف .

واسع : اسم فاعل من وسع يسع سعة ووُسعاً ، ومقابله ضاق ، إلا أن وسع يأتي متعدّياً : { وسع كرسيه السموات والأرض } { ورحمتي وسعت كل شيء }

{ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله } : قال الحسن وقتادة : أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاءُوا ، فنسخ ذلك .

وقال مجاهد والضحاك : معناها إشارة إلى الكعبة ، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب ، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة .

فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس .

وقال أبو العالية وابن زيد : نزلت جواباً لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة .

وقال ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر ، حيث توجهت به دابته .

وقيل : جواب لمن قال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ قاله سعيد بن جبير .

وقيل : في الصلاة على النجاشي ، حيث قالوا : لم يكن يصلي إلى قبلتنا .

وقيل : فيمن اشتبهت عليه القبلة في ليلة متغيمة ، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة .

وقد روي ذلك في حديث عن جابر ، أن ذلك وقع لسرية ، وعن عامر بن ربيعة ، أن ذلك جرى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ، ولو صح ذلك ، لم يعدل إلى سواه من هذه الأقوال المختلفة المضطربة .

وقال النخعي : الآية عامّة ، أينما تولوا في متصرّفاتكم ومساعيكم .

وقيل : نزلت حين صُدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت .

وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية ، وظاهرها التعارض ، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح ، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها .

وقد صنف الواحدي في ذلك كتاباً قلما يصح فيه شيء ، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح .

والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو : أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها ، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ، ولا من ذكر الله ، إذ المشرق والمغرب لله تعالى ، فأي جهة أدّيتم فيها العبادة ، فهي لله يثيب على ذلك ، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد .

والمعنى : ولله بلاد المشرق والمغرب وما بينهما .

فيكون على حذف مضاف ، أو يكون المعنى : ولله المشرق والمغرب وما بينهما ، فيكون على حذف معطوف ، أو اقتصر على ذكرهما تشريفاً لهما ، حيث أضيفا لله ، وإن كانت الأشياء كلها لله ، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى .

وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان .

وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر ، والمعنى أن لله تولى إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها ، فيكونان ، إذ ذاك ، بمعنى الشروق والغروب .

ويبعد هذا القول قوله بعد : { فأينما تولوا فثمّ وجه الله } .

وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية ، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية .

وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم .

وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما .

ومعنى التولية : الاستقبال بالوجوه .

وقيل : معناها الاستدبار من قولك : وليت عن فلان إذا استدبرته ، فيكون التقدير : فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه الله .

وقيل : ليست في الصلاة ، بل هو خطاب للذين يخرّبون المساجد ، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم .

ويقويه قراءة الحسن : فأينما تولوا ، جعله للغائب ، فجرى على قوله : { لهم في الدنيا خزي } ، وعلى قوله : { وقالوا اتخذ الله ولداً } ، فجرت الضمائر على نسق واحد .

قال الزمخشري : ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } انتهى .

فقيد التولية التي هي مطلقة بالتولية التي هي شطر القبلة ، وهو قول حسن .

وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى : { ولله المشرق والمغرب } مسائل موضوعها علم الفقه منها : من صلى في ظلمة مجتهداً إلى جهة ، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة ، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضاً لمرض أو نفلاً ، ومسألة الصلاة على الميت الغائب ، إذا قلنا نزلت في النجاشي ، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل ، وذكر الخلاف فيها ، وبعض دلائلها وموضوعها ، كما ذكرناه هو علم الفقه .

{ فثمّ وجه الله } ، هذا جواب الشرط ، وهي جملة ابتدائية ، فقيل : معناه فثمّ قبلة الله ، فيكون الوجه بمعنى الجهة ، وأضيف ذلك إلى الله حيث أمر باستقبالها ، فهي الجهة التي فيها رضا الله تعالى ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل .

وقيل : الوجه هنا صلة ، والمعنى فثمّ الله أي علمه وحكمه .

وروي عن ابن عباس ومقاتل : أو عبر عن الذات بالوجه ، كقوله تعالى : { ويبقى وجه ربك } { كل شيء هالك إلا وجهه } وقيل : المعنى العمل لله ، قاله الفراء ، قال :

أستغفر الله ذنباً لست محصيه*** رب العباد إليه الوجه والعمل

وقيل : يحتمل أن يراد بالوجه هنا : الجاه ، كما يقال : فلان وجه القوم ، أي موضع شرفهم ، ولفلان وجه عند الناس : أي جاه وشرف .

والتقدير : فثمّ جلال الله وعظمته ، قاله أبو منصور في المقنع .

وحيث جاء الوجه مضافاً إلى الله تعالى ، فله محمل في لسان العرب ، إذ هو لفظ يطلق على معان ، ويستحيل أن يحمل على العضو ، وإن كان ذلك أشهر فيه .

وقد ذهب بعض الناس إلى أن تلك صفة ثابتة لله بالسمع ، زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى .

وضعف أبو العالية وغيره هذا القول ، لأن فيه الجزم بإثبات صفة لله تعالى بلفظ محتمل ، وهي صفة لا يدرى ما هي ، ولا يعقل معناها في اللسان العربي ، فوجب إطراح هذا القول والإعتماد على ما له محمل في لسان العرب .

إذا كان للفظ دلالة على التجسيم فنحمله ، إمّا على ما يسوغ فيه من الحقيقة التي يصح نسبتها إلى الله تعالى إن كان اللفظ مشتركاً ، أو من المجاز إن كان اللفظ غير مشترك .

والمجاز في كلام العرب أكثر من رمل يبرين ونهر فلسطين .

فالوقوف مع ظاهر اللفظ الدال على التجسيم غباوة وجهل بلسان العرب وأنحائها ومتصرّفاتها في كلامها ، وحجج العقول التي مرجع حمل الألفاظ المشكلة إليها .

ونعوذ بالله أن نكون كالكرامية ، ومن سلك مسلكهم في إثبات التجسيم ونسبة الأعضاء لله ، تعالى الله عما يقول المفترون علواً كبيراً .

وفي قوله : { فأينما تولوا فثم وجه الله } ردّ على من يقول : إنه في حيز وجهة ، لأنه لما خير في استقبال جميع الجهات دل على أنه ليس في جهة ولا حيز ، ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن .

فحيث لم يخصص مكاناً ، علمنا أنه لا في جهة ولا حيز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره .

{ إن الله واسع عليم } : وصف تعالى نفسه بصفة الواسع ، فقيل ذلك لسعة مغفرته .

وجاء : { إن ربك واسع المغفرة } وهو معنى قول الكلبي : لا يتعاظمه ذنب .

وقيل : واسع العطاء ، وهو معنى قول أبي عبيدة : غني ، ومعنى قول الفراء : جواد .

وقيل : معناه عالم ، من قوله : { وسع كرسيه السموات والأرض } على أحد التفاسير ، وجمع بينه وبين عليم على سبيل التأكيد .

وقيل : واسع القدرة .

وقيل : معناه يوسع على عباده في الحكم ذينه يسر .

عليم : أي بمصالحهم أو بنيات القلوب التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهرها في قبلة وغيرها .

وهذه التفاسير على قول من قال : إن الآية نزلت في أمر القبلة .

وقال القفال : ليس فيها ذكر القبلة والصلاة ، وإنما أخبرهم تعالى عن علمه بهم ، وطوق سلطانه إياهم حيث كانوا ، كقوله تعالى : { إن استطعتم } الآية ، وقوله : { ما يكون من نجوى } الآية ويكون في هذا تهديد لمن منع مساجد الله من الذكر ، وسعى في خرابها ، أنه لا مهرب له من الله ولا مفر ، كما قال تعالى : { أين المفر ، كلا ولا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر } وكما قال :

فإنك كالليل الذي هو مدركي***وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

وقال :

ولم يكن المغتر بالله إذ سرى***ليعجز والمعتز بالله طالبه

وقال :

أين المفر ولا مفر لهارب*** وله البسيطان الثرى والماء

وعلى هذا المعنى يكون الخطاب عاماً مندرج فيه من منع المساجد من الذكر وغيره .

وجاءت هذه الجملة مؤكدة بأن مصرحاً باسم الله فيها دالة على الاستقلال .

وقد قدّمنا ذلك في قوله : { تجدوه عند الله إن الله } وكقوله : { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } وذلك أفخم وأجزل من الضمير ، لأن الضمير يشعر بقوة التعلق والظاهر يشعر بالاستقلال .

ألا ترى أنه يصح الابتداء به ، وإن لم يلحظ ما قبله ؟ بخلاف الضمير ، فإنه رابط للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها .

ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر ؟ كما مثلناه ، وكقوله : { فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت } { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله } وقال :

ليت شعري وأين مني ليت***إن ليتا وإن لوّا عناء

/خ123