البديع : النادر الغريب الشكل .
بدع يبدع بداعة فهو بديع ، إذا كان نادراً ، غريب الصورة في الحسن ، وهو راجع لمعنى الابتداع ، وهو الاختراع والإنشاء .
قضى : قدّر ، ويجيء بمعنى أمضى .
سأغسل عني العار بالسيف جالباً *** عليّ قضاء الله ما كان جالبا
قال الأزهري : قضى على وجوه ، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه ، قال أبو ذؤيب :
وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبّع
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها *** بوائق في أكمامها لم تفتق
فيكون بمعنى خلق : { فقضاهن سبع سموات } ، وأعلم : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } وأمر : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } وألزم ، منه قضى القاضي ، ووفى : { فلما قضى موسى الأجل } وأراد : { إذا قضى أمراً }
{ بديع السموات والأرض } : لما ذكر أنه مالك لجميع من في السموات والأرض ، وأنهم كلّ قانتون له ، وهم المظروف للسموات والأرض ، ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة ، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات .
وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل .
فالمجرور مشبه بالمفعول ، وأصله الأول بديع سمواته ، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ، فنصب السموات ، ثم جر من نصب .
وفيه أيضاً ضمير يعود على الله تعالى ، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت سمواته ، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره .
وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري ، إلا أنه قال : وبديع السموات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهذا ليس عندنا .
كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها .
والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض ، وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة ، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية .
فإذا قلنا : زيد قائم أبوه ، فقائم رافع للأب على حدّ رفع ضارب له .
إذا قلت : زيد ضارب أبوه عمراً ، لا تقول : إن قائماً هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب ، وإذا كان كذلك ، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرّر في علم العربية ، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوّز فيمكن ، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلاً بها قبل أن يشبه .
وحكى الزمخشري وجهاً ثانياً قال : وقيل البديع بمعنى المبدع ، كما أن السميع في قول عمرو :
وهذا الوجه لم يذكر ابن عطية غيره ، قال : وبديع مصروف من مبدع ، كبصير من مبصر ، ومنه قول عمرو بن معدى كرب :
أمن ريحانة الداعي السمي***ع يؤرّقني وأصحابي هجوع
يريد : المسمع والمبدع والمنشىء ، ومنه أصحاب البدع ، ومنه قول عمر بن الخطاب في صلاة رمضان : نعمت البدعة هذه ، انتهى .
والنظر الذي ذكره الزمخشري ، والله أعلم ، أن فعيلاً بمعنى مفعل لا ينقاس مع أن بيت عمرو محتمل للتأويل .
وعلى هذا الوجه يكون من باب إضافة اسم الفاعل لمفعوله .
وقرأ المنصور : بديع بالنصب على المدح ، وقرئ بالجرّ على أنه بدل من الضمير في له .
{ وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } : لما ذكر ما دل على الاختراع ، ذكر ما يدل على طواعية المخترع وسرعة تكوينه .
ومعنى قضى هنا : أراد ، أي إذا أراد إنشاء أمر واختراعه .
قال ابن عطية : وقضى : معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى : أمضى .
فعلى مذهب أهل السنة : قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة : أمضى عند الخلق والإيجاد .
والأمر : واحد الأمور ، وليس هنا مصدر أمر يأمر .
والمعتقد في هذه الآية أن الله لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات .
وكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكلّ ما استند إلى الله من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل .
انتهى ما نقلناه هنا من كلامه .
وقال المهدوي : { وإذا قضى أمراً } ، أي أتقنه وأحكمه وفرغ منه .
ومعنى : فإنما يقول له كن فيكون ، يقول من أجله .
وقيل : قال له كن ، وهو معدوم ، لأنه بمنزلة الموجود ، إذ هو عنده معلوم .
قال الطبري : أمره للشيء بكن لا يتقدّم الوجود ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود بالأمر ، ولا موجوداً بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود .
قال : ونظيره قيام الأموات من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله ولا يتأخر عنه ، كما قال :
{ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } فالهاء في له تعود على الأمر ، أو على القضاء الذي دلّ عليه قضى ، أو على المراد الذي دلّ عليه الكلام .
وقال مكي : معنى الآية أنه عالم بما سيكون وما هو كائن ، فقوله : كن ، إنما هو للموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا .
وقال الزمخشري : كن فيكون ، من كان التامة ، أي أحدث فيحدث ، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ، ثم كما لا قول في قوله :
وإنما المعنى : ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف .
كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل ، لا يتوقف ولا يمتنع ، ولا يكون منه الإباء .
أكد بهذا استبعاد الولادة ، لأن من كان بهذه الصفة من القدرة ، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها .
وقال السجاوندي : كن على التمثيل لنفاذ الأمر ، قال :
فقالت له العينان سمعاً وطاعة***وإلا فالمعدوم كيف يخاطب
أو علامة للملائكة بحدوث الموجود ، أو على تقدير ما تصوّر كونه في علمه ، أو مخصوص في تحويل الموجود من حال إلى حال ، ولو كان كن مخلوقاً ، لاحتاج إلى أخرى ولا يتناهي ، فدلَّ على أن القرآن غير مخلوق .
قال المهدوي : وفي هذه الآية دليل على أن كلام الله غير مخلوق ، لأنه لو كان مخلوقاً لكان قائلاً له : كن ، ولكان قائلاً : لكن كن ، حتى ينتهي ذلك إلى ما لا يتناهى ، وذلك مستحيل مع ما يؤدّي إليه ذلك من أنه لا يوجد من الله فعل ألبتة ، إذ لا بد أن يوجد قبله أفعال ، هي أقاويل لا غاية لها ، وذلك مستحيل .
ولا يجوز أن يحمل على المجاز ، إذ ذلك إنما يكون في الجمادات ، ولا يكون فيمن يصح منه القول إلا بدليل .
ويقوي ذلك أن المصدر فيه الذي هو قولنا من قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وكد بمصدر آخر ، وهو أن نقول ، وأهل العربية مجمعون ، على أنهم إذا أكدوا الفعل بالمصدر كان حقيقة ، ولذلك جاء قوله : { وكلم الله موسى تكليماً } إذ كان الله تعالى متولي تكليمه .
وقد قيل : إن معنى فإنما يقول له كن فيكون بكونه .
وقال في المنتخب : كن فيكون ليس المراد أنه تعالى يقول كن ، فحينئد يكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد من وجوه ، فلا بد من تأويله ، وفيه وجوه : الأول : وهو الأقوى ، أن المراد نفاذ سرعة قدرة الله في تكوين الأشياء ، وإنما يخلقها لا لفكرة ، ونظيرة { قالتا أتينا طائعين } الثاني : أنها علامة يعقلها الملائكة ، إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، قاله أبو الهذيل .
الثالث : أنه جاء للموجودين الذين قال لهم : { كونوا قردة خاسئين } ومن جرى مجراهم ، وهو قول الأصم .
الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة ، والكل ضعيف ، والقوي هو الأول .
هذا ما نقلناه من كلام أهل التفسير في الآية .
وظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له : كن ، تبينه الآية الأخرى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وقوله : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } لكن دليل العقل صد عن اعتقاد مخاطبة المعدوم ، وصد عن أن يكون الله تعالى محلاً للحوادث ، لأن لفظة كن محدثة ، ومن يعقل مدلول اللفظ .
وكونه يسبق بعض حروفه بعضاً ، لم يدخله شك في حدوثه ، وإذا كان كذلك ، فلا خطاب ولا قول لفظياً ، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد وعدم اعتياصه ، فهو من مجاز التمثيل ، وكأنه قدر أن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة ، بحيث لا يتأخر عن امتثال ما أمر به .
وقرأ الجمهور : فيكون بالرفع ، ووجه على أنه على الاستئناف ، أي فهو يكون ، وعزى إلى سيبويه .
وقال غيره : فيكون عطف على يقول ، واختاره الطبري وقرّره .
وقال ابن عطية : وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين حادث ، وقد انتهى ما رده به ابن عطية .
ومعنى رده : أن الأمر عنده قد تم ، والتكوين حادث ، وقد نسق عليه بالفاء ، فهو معه ، أي يعتقبه ، فلا يصح ذلك ، لأن القديم لا يعتقبه الحادث .
وتقرير الطبري له هو ما تقدم في أوائل الكلام على هذه المسألة ، من أن الأمر لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه .
وما رده به ابن عطية لا يتم إلا بأن تحمل الآية على أن ثم قولاً وأمراً قديماً .
أما إذا كان ذلك على جهة المجاز ، ومن باب التمثيل ، فيجوز أن يعطف على نقول .
وقرأ ابن عامر : فيكون بالنصب ، وفي آل عمران : { كن فيكون } ونعلمه ، وفي النحل ، وفي مريم ، وفي يس ، وفي المؤمن .
ووافقه الكسائي في النحل ويس ، ولم يختلف في { كن فيكون } الحق في آل عمران .
{ وكن فيكون } قوله الحق في الأنعام أنه بالرفع ، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن ، لأنه جاء بلفظ الأمر ، فشبه بالأمر الحقيقي .
ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي ، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحوه : ائتني فأكرمك ، إذ المعنى : إن تأتني أكرمك .
وهنا لا ينتظم ذلك ، إذ يصير المعنى : إن يكن يكن ، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء ، إما بالنسبة إلى الفاعل ، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه ، أو في شيء من متعلقاته .
وحكى ابن عطية ، عن أحمد بن موسى ، في قراءة ابن عامر : أنها لحن ، وهذا قول خطأ ، لأن هذه القراءة في السبعة ، فهي قراءة متواترة ، ثم هي بعد قراءة ابن عامر ، وهو رجل عربي ، لم يكن ليلحن .
وقراءة الكسائي في بعض المواضع ، وهو إمام الكوفيين في علم العربية ، فالقول بأنها لحن ، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر ، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى .