الأمة : الجماعة ، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة ، والواحد المعظم المتبوع ، والمنفرد في الأمر والدين والحين .
والأم : هذه أمة زيد ، أي أمه ، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ ، وأتباع الرسل ، والطريقة المستقيمة ، والجيل .
المناسك : جمع منسك ومنسك ، والكسر في سين منسك شاذ ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين ، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك ، والناسك : المتعبد .
{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } : أي منقادين ، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله : من أسلم وجهه ، أي أخلص عمله ، والمعنى : أدم لنا ذلك ، لأنهما كانا مسلمين ، ولك تفيد جهة الإسلام ، أي لك لا لغيرك .
وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي : مسلمين على الجمع ، دعاء لهما وللموجود من أهلهما ، كهاجر ، وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مراداً به التثنية ، وقد قيل به هنا .
{ ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك } : لما تقدّم الجواب له بقوله : { لا ينال عهدي الظالمين } ، علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم ، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال : { ومن ذريتنا } ، وخصّ ذريته بالدعاء للشفقة والحنوّ عليهم ، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعاً كثيراً لمتبعهم ، إذ يكونون سبباً لصلاح من وراءهم .
والذرية هنا ، قيل : أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، بدليل قوله : { وابعث فيهم } .
وقيل : هم العرب ، لأنهم من ذريتهما .
قال القفال : لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً ، ولم تزل الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذريتهما ، وكان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الأيادي .
ويقال : عبد المطلب بن هاشم ، جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمرو بن الظرب ، كانا على دين الإسلام .
وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله : ومن ذريتنا ، للتبيين ، قال كقوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم } وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك .
وتقدّم شرح الأمة ، والمراد به هنا : الجماعة ، أو الجيل ، والمعنى : على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله : واجعل ، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير ، فالمعنى : واجعل ناساً من ذريتنا أمة مسلمة لك ، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله : واجعل من ذريتنا بمعنى : أوجدوا خلق .
وإن كان من جهة المعنى صحيحاً ، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد .
ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة ، لأنه إن كان من باب عطف المفردات ، فهو مشترك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد .
وإن كان من باب عطف الجمل ، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق .
والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد ، فكذلك المحذوف .
ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } أن يكون التقدير : وملائكته يصلون ، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء ، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف ؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة ، ومن ذريتنا حال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ، ومسلمة المفعول الثاني ، وكان الأصل : اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك ، قال : فالواو داخلة في الأصل على أمة ، وقد فصل بينهما بقوله : من ذريتنا ، وهو جائز ، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف ، وجعلوا قوله :
من الضرورات ، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف ، فصار نظير : ضربت الرجل ، ومتجردة المرأة تريد : والمرأة متجردة ، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة .
{ وأرنا مناسكنا } : قال قتادة : معالم الحج .
وقال عطاء وابن جريج : مذابحنا ، أي مواضع الذبح .
وقيل : كل عبادة يتعبد بها الله تعالى .
وقال تاج القراء الكرماني : إن كان المراد أعمال الحج ، وما يفعل في المواقف ، كالطواف ، والسعي ، والوقوف ، والصلاة ، فتكون المناسك جمع منسك : المصدر ، جمع لاختلافها .
وإن كان أراد المواقف التي يقام فيها شرائع الحج ، كمنى ، وعرفة ، والمزدلفة ، فيكون جمع منسك وهو موضع العبادة .
وروي عن علي أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة ، بعث الله إليه جبريل عليه السلام ، فحج به .
وفي قراءة ابن مسعود : وأرهم مناسكهم ، أعاد الضمير على الذرية ، ومعنى أرنا : أي بصِّرنا .
والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر ، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد ، وإن كانت من رؤية القلب ، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين ، نحو قوله :
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة*** إذا ما رأته عامر وسلول
بأي كتاب أم بأية سنة*** ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
فإذا دخلت عليها همزة النقل ، تعدت إلى ثلاثة ، وليس هنا إلا إثنان ، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين .
وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب ، وشرحها بقوله : عرف ، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف ، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد ، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب .
وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر ، وعن طائفة أنها من رؤية القلب .
قال ابن عطية : وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين ، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود :
أريني جواداً مات هزلاً لأنني*** أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا
ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى .
إذا كانت قلبية ، تعدت إلى اثنين ، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة ، وقوله : وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل ، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة .
وإذا كان كذلك ، ثبت أن لرأي ، إذا كانت قلبية ، استعمالين : أحدهما : أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف ، والثاني : أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين .
واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية ، لا دليل فيه ، بل الظاهر أنها بصرية ، والمعنى على أبصريني جواداً .
ألا ترى إلى قوله : مات هزلاً ؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر ، فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع .
وقد قال ابن مالك ، وهو حاشد لغة ، وحافظ نوادر : حين عدى ما يتعدى إلى اثنين ، فقال في التسهيل ، ورأى لا لإبصار ، ولا رأي ، ولا ضرب ، فلو كانت رأي بمعنى عرف ، لنفى ذلك ، كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين ، كونها لا تكون لأبصار ، ولا رأى ، ولا ضرب .
وقال بعض الناس : المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معاً ، لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً ، وهذا ضعيف ، لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة ، وهو لا يجوز عندنا .
وقرأ ابن كثير : وأرنا ، وأرني خمسة بإسكان الراء .
وروي عن أبي عمرو : والإسكان والاختلاس .
وروي عنه : الإشباع ، كالباقين ، إلا أن أبا عامر ، وأبا بكر أسكنا في أرنا اللذين .
فالإشباع هو الأصل ، والاختلاس حسن مشهور في العربية ، والإسكان تشبيه للمنفصل بالمتصل ، كما قالوا : فخذ سهله ، كون الحركة فيه ليست لإعراب .
وقد أنكر بعض الناس الإسكان من أجل أن الكسرة تدل على ما حذف ، فيقبح حذفها ، يعني أن الأصل كان أرء ، فنقلت حركة الهمزة إلى الراء ، وحذفت الهمزة ، فكان في إقرارها دلالة على المحذوف .
وهذا ليس بشيء ، لأن هذا أصل مرفوض ، وصارت الحركة كأنها حركة للراء .
وقال الفارسي : ما قاله هذا القائل ليس بشيء .
ألا تراهم أدغموا في لكنا هو الله ربي ، أي الأصل لكن ، ثم نقلوا الحركة وحذفوا ، ثم أدغموا ؟ فذهاب الحركة في أرنا ليس بدون ذهابها في الإدغام .
وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصاً عن العرب ، قال الشاعر :
أرنا أداوة عبد الله نملؤها*** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
وأيضاً فهي قراءة متواترة ، فإنكارها ليس بشيء .
وذكر المفسرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك ، أقوالاً سبعة مضطربة النقل .
وذكروا أيضاً من حج هذا البيت من الأنبياء ، ومن مات بمكة منهم .
وذكروا أنه مات بها نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، وغيرهم ، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا .
{ وتب علينا } : قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين ، فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب ، والرجوع عن الذنب ، والعزم على عدم العود ، ورد المظالم إذا أمكن ، ونية الرد إذا لم يمكن ، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء ، والفتور في الأعمال ، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال ، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات ، والترقي في المقامات ، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة ، وكان الضمير في قوله : { وتب علينا } خاصاً بهما ، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير .
قالوا : ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } .
وإن كان الضمير شاملاً لهما وللذرية ، كان الدعاء بالتوبة منصرفاً لمن هو من أهل التوبة .
وإن كان الضمير قبله محذوفاً مقدراً ، فالتقدير على عصاتنا ، ويكون دعا بالتوبة للعصاة .
ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لما ذكرناه من الاحتمال ، خلافاً لمن زعم ذلك وقال : التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة .
والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى : { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } إلى قوله : { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له ، وقراءة عبد الله ، وأرهم مناسكهم ، وتب عليهم ، واحتمال أن يكون : وأرنا مناسكنا على حذف مضاف ، أي وأر ذريتنا مناسكنا ، كقوله : ولقد خلقناكم ، أي خلقنا أباكم .
وقال الزمخشري : وتب علينا ما فرط منا من الصغائر ، أو استتاباً لذريتهما . انتهى .
فقوله : ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة ، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء .
قال ابن عطية : وقد ذكر قولي التثبيت ، أو كون ذلك دعاء للذرية ، قال : وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك ، وبنيا البيت ، وأطاعا ، أرادا أن يسنّا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة .
وقال الطبري : ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن يكون أحسن مما هي .
انتهى كلام ابن عطية ، وفيه خروج قوله : وتب علينا عن ظاهره إلى تأويل بعيد ، أي إن الدعاء بقوله : وتب علينا ، ليس معناه أنهما طلبا التوبة ، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة ، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة ، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك ، وهذا بعيد جداً .
قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر .
قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي ، في ( كتاب المحصول ) له ما ملخصه : قالت الشيعة ، لا يجوز أن يقع منهم ذنب ، لا صغير ولا كبير ، لا عمداً ولا سهواً ، ولا من جهة التأويل .
ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر ، ولا التبديل في التبليغ ، ولا الخطأ في الفتوى .
وذكر خلافاً في أشياء ، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد ، لا كبير ولا صغير ، وأما سهواً فقد يقع ، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهواً .
{ إنك أنت التواب الرحيم } : يجوز في أنت : الفصل والتأكيد والابتداء ، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة ، وبأن يريهما مناسكهما ، وبأن يتوب عليهما .
فناسب ذكر التوبة عليهما ، أو الرحمة لهما .
وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة ، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله : { وتب علينا } .
وتأخرت صفة الرحمة لعمومها ، لأن من الرحمة التوبة ، ولكنها فاصلة .
والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا ، لأن قبلها { إنك أنت السميع العليم } ، وبعدها : { إنك أنت العزيز الحكيم } .