البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

الأمة : الجماعة ، وهو لفظ مشترك ينطلق على الجماعة ، والواحد المعظم المتبوع ، والمنفرد في الأمر والدين والحين .

والأم : هذه أمة زيد ، أي أمه ، والقامة والشجة التي تبلغ أم الدماغ ، وأتباع الرسل ، والطريقة المستقيمة ، والجيل .

المناسك : جمع منسك ومنسك ، والكسر في سين منسك شاذ ، لأن اسم المصدر والزمان والمكان من يفعل بضم العين ، أو فتحها مفعل بفتح العين إلا ما شذ من ذلك ، والناسك : المتعبد .

{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } : أي منقادين ، أو مخلصين أوجهنا لك من قوله : من أسلم وجهه ، أي أخلص عمله ، والمعنى : أدم لنا ذلك ، لأنهما كانا مسلمين ، ولك تفيد جهة الإسلام ، أي لك لا لغيرك .

وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي : مسلمين على الجمع ، دعاء لهما وللموجود من أهلهما ، كهاجر ، وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مراداً به التثنية ، وقد قيل به هنا .

{ ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك } : لما تقدّم الجواب له بقوله : { لا ينال عهدي الظالمين } ، علم أن من ذريتهما الظالم وغير الظالم ، فدعا هنا بالتبعيض لا بالتعميم فقال : { ومن ذريتنا } ، وخصّ ذريته بالدعاء للشفقة والحنوّ عليهم ، ولأن في صلاح نسل الصالحين نفعاً كثيراً لمتبعهم ، إذ يكونون سبباً لصلاح من وراءهم .

والذرية هنا ، قيل : أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، بدليل قوله : { وابعث فيهم } .

وقيل : هم العرب ، لأنهم من ذريتهما .

قال القفال : لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً ، ولم تزل الرسل عليهم الصلاة والسلام من ذريتهما ، وكان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الأيادي .

ويقال : عبد المطلب بن هاشم ، جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمرو بن الظرب ، كانا على دين الإسلام .

وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله : ومن ذريتنا ، للتبيين ، قال كقوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم } وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك .

وتقدّم شرح الأمة ، والمراد به هنا : الجماعة ، أو الجيل ، والمعنى : على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله : واجعل ، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير ، فالمعنى : واجعل ناساً من ذريتنا أمة مسلمة لك ، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله : واجعل من ذريتنا بمعنى : أوجدوا خلق .

وإن كان من جهة المعنى صحيحاً ، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد .

ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة ، لأنه إن كان من باب عطف المفردات ، فهو مشترك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد .

وإن كان من باب عطف الجمل ، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق .

والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد ، فكذلك المحذوف .

ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى : { هو الذي يصلي عليكم وملائكته } أن يكون التقدير : وملائكته يصلون ، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء ، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف ؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة ، ومن ذريتنا حال ، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ، ومسلمة المفعول الثاني ، وكان الأصل : اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك ، قال : فالواو داخلة في الأصل على أمة ، وقد فصل بينهما بقوله : من ذريتنا ، وهو جائز ، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف ، وجعلوا قوله :

يوماً تراها كشبه أردية ال***

عصب ويوماً أديمها نغلا

من الضرورات ، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف ، فصار نظير : ضربت الرجل ، ومتجردة المرأة تريد : والمرأة متجردة ، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة .

{ وأرنا مناسكنا } : قال قتادة : معالم الحج .

وقال عطاء وابن جريج : مذابحنا ، أي مواضع الذبح .

وقيل : كل عبادة يتعبد بها الله تعالى .

وقال تاج القراء الكرماني : إن كان المراد أعمال الحج ، وما يفعل في المواقف ، كالطواف ، والسعي ، والوقوف ، والصلاة ، فتكون المناسك جمع منسك : المصدر ، جمع لاختلافها .

وإن كان أراد المواقف التي يقام فيها شرائع الحج ، كمنى ، وعرفة ، والمزدلفة ، فيكون جمع منسك وهو موضع العبادة .

وروي عن علي أن إبراهيم لما فرغ من بناء البيت ودعا بهذه الدعوة ، بعث الله إليه جبريل عليه السلام ، فحج به .

وفي قراءة ابن مسعود : وأرهم مناسكهم ، أعاد الضمير على الذرية ، ومعنى أرنا : أي بصِّرنا .

إن كانت من رأي البصرية .

والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر ، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد ، وإن كانت من رؤية القلب ، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين ، نحو قوله :

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة*** إذا ما رأته عامر وسلول

وقال الكميت :

بأي كتاب أم بأية سنة*** ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب

فإذا دخلت عليها همزة النقل ، تعدت إلى ثلاثة ، وليس هنا إلا إثنان ، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين .

وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب ، وشرحها بقوله : عرف ، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف ، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد ، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب .

وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر ، وعن طائفة أنها من رؤية القلب .

قال ابن عطية : وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين ، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود :

أريني جواداً مات هزلاً لأنني*** أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا

انتهى كلام ابن عطية وقوله .

ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى .

إذا كانت قلبية ، تعدت إلى اثنين ، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة ، وقوله : وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب ، كغير المعدى ، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل ، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة .

وإذا كان كذلك ، ثبت أن لرأي ، إذا كانت قلبية ، استعمالين : أحدهما : أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف ، والثاني : أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين .

واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية ، لا دليل فيه ، بل الظاهر أنها بصرية ، والمعنى على أبصريني جواداً .

ألا ترى إلى قوله : مات هزلاً ؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر ، فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع .

وقد قال ابن مالك ، وهو حاشد لغة ، وحافظ نوادر : حين عدى ما يتعدى إلى اثنين ، فقال في التسهيل ، ورأى لا لإبصار ، ولا رأي ، ولا ضرب ، فلو كانت رأي بمعنى عرف ، لنفى ذلك ، كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين ، كونها لا تكون لأبصار ، ولا رأى ، ولا ضرب .

وقال بعض الناس : المراد هنا بالرؤية رؤية البصر والقلب معاً ، لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً ، وهذا ضعيف ، لأن فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو حمل اللفظ المشترك على أكثر من موضوع واحد في حالة واحدة ، وهو لا يجوز عندنا .

وقرأ ابن كثير : وأرنا ، وأرني خمسة بإسكان الراء .

وروي عن أبي عمرو : والإسكان والاختلاس .

وروي عنه : الإشباع ، كالباقين ، إلا أن أبا عامر ، وأبا بكر أسكنا في أرنا اللذين .

فالإشباع هو الأصل ، والاختلاس حسن مشهور في العربية ، والإسكان تشبيه للمنفصل بالمتصل ، كما قالوا : فخذ سهله ، كون الحركة فيه ليست لإعراب .

وقد أنكر بعض الناس الإسكان من أجل أن الكسرة تدل على ما حذف ، فيقبح حذفها ، يعني أن الأصل كان أرء ، فنقلت حركة الهمزة إلى الراء ، وحذفت الهمزة ، فكان في إقرارها دلالة على المحذوف .

وهذا ليس بشيء ، لأن هذا أصل مرفوض ، وصارت الحركة كأنها حركة للراء .

وقال الفارسي : ما قاله هذا القائل ليس بشيء .

ألا تراهم أدغموا في لكنا هو الله ربي ، أي الأصل لكن ، ثم نقلوا الحركة وحذفوا ، ثم أدغموا ؟ فذهاب الحركة في أرنا ليس بدون ذهابها في الإدغام .

وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصاً عن العرب ، قال الشاعر :

أرنا أداوة عبد الله نملؤها*** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

وأيضاً فهي قراءة متواترة ، فإنكارها ليس بشيء .

وذكر المفسرون في كيفية تأدية إبراهيم وإسماعيل هذه المناسك ، أقوالاً سبعة مضطربة النقل .

وذكروا أيضاً من حج هذا البيت من الأنبياء ، ومن مات بمكة منهم .

وذكروا أنه مات بها نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، وغيرهم ، ولم تتعرض الآية الكريمة لشيء من ذلك ، فتركنا نقل ذلك على عادتنا .

{ وتب علينا } : قالوا التوبة من حيث الشريعة تختلف باختلاف التائبين ، فتوبة سائر المسلمين الندم بالقلب ، والرجوع عن الذنب ، والعزم على عدم العود ، ورد المظالم إذا أمكن ، ونية الرد إذا لم يمكن ، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء ، والفتور في الأعمال ، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال ، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات ، والترقي في المقامات ، فإن كان إبراهيم وإسماعيل دعوا لأنفسهما بالتوبة ، وكان الضمير في قوله : { وتب علينا } خاصاً بهما ، فيحتمل أن تكون التوبة هنا من هذا القسم الأخير .

قالوا : ويحتمل أن يريد التثبيت على تلك الحالة مثل : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } .

وإن كان الضمير شاملاً لهما وللذرية ، كان الدعاء بالتوبة منصرفاً لمن هو من أهل التوبة .

وإن كان الضمير قبله محذوفاً مقدراً ، فالتقدير على عصاتنا ، ويكون دعا بالتوبة للعصاة .

ولا تدل هذه الآية على جواز وقوع الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لما ذكرناه من الاحتمال ، خلافاً لمن زعم ذلك وقال : التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، إذ لولا ذلك لاستحال طلب التوبة .

والذي يقوي أن المراد الذرية العصاة قوله تعالى : { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } إلى قوله : { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } أي فأنت قادر على أن تتوب عليه وتغفر له ، وقراءة عبد الله ، وأرهم مناسكهم ، وتب عليهم ، واحتمال أن يكون : وأرنا مناسكنا على حذف مضاف ، أي وأر ذريتنا مناسكنا ، كقوله : ولقد خلقناكم ، أي خلقنا أباكم .

وقال الزمخشري : وتب علينا ما فرط منا من الصغائر ، أو استتاباً لذريتهما . انتهى .

فقوله : ما فرط منا من الصغائر هو على مذهب المعتزلة ، إذ يقولون بتجويزها على الأنبياء .

قال ابن عطية : وقد ذكر قولي التثبيت ، أو كون ذلك دعاء للذرية ، قال : وقيل وهو الأحسن عندي أنهما لما عرفا المناسك ، وبنيا البيت ، وأطاعا ، أرادا أن يسنّا للناس أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة .

وقال الطبري : ليس أحد من خلق الله إلا وبينه وبين الله تعالى معان يحب أن يكون أحسن مما هي .

انتهى كلام ابن عطية ، وفيه خروج قوله : وتب علينا عن ظاهره إلى تأويل بعيد ، أي إن الدعاء بقوله : وتب علينا ، ليس معناه أنهما طلبا التوبة ، بل نبها بذلك الطلب على أن غيرهما يطلب في تلك المواضع التوبة ، فيكونان لم يقصدا الطلب حقيقة ، إنما ذكرا ذلك لتشريع غيرهما لطلب ذلك ، وهذا بعيد جداً .

قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ ، ومن الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة ، واختلف في غير ذلك من الصغائر .

انتهى كلامه .

قال الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن الرازي ، في ( كتاب المحصول ) له ما ملخصه : قالت الشيعة ، لا يجوز أن يقع منهم ذنب ، لا صغير ولا كبير ، لا عمداً ولا سهواً ، ولا من جهة التأويل .

ثم ذكر الاتفاق على أنه لا يجوز منهم الكفر ، ولا التبديل في التبليغ ، ولا الخطأ في الفتوى .

وذكر خلافاً في أشياء ، ثم قال الذي يقول به إنه لا يقع منهم ذنب على سبيل القصد ، لا كبير ولا صغير ، وأما سهواً فقد يقع ، لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم على أن ذلك كان سهواً .

{ إنك أنت التواب الرحيم } : يجوز في أنت : الفصل والتأكيد والابتداء ، وهاتان الصفتان مناسبتان لأنهما دعوا بأن يجعلهما مسلمين ومن ذريتهما أمة مسلمة ، وبأن يريهما مناسكهما ، وبأن يتوب عليهما .

فناسب ذكر التوبة عليهما ، أو الرحمة لهما .

وناسب تقديم ذكر التوبة على الرحمة ، لمجاورة الدعاء الأخير في قوله : { وتب علينا } .

وتأخرت صفة الرحمة لعمومها ، لأن من الرحمة التوبة ، ولكنها فاصلة .

والتواب لا يناسب أن تكون فاصلة هنا ، لأن قبلها { إنك أنت السميع العليم } ، وبعدها : { إنك أنت العزيز الحكيم } .

/خ131