{ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } العامل في : إذ ، ومكر الله قاله الطبري ، أو : اذكر ، قاله بعض النحاة ، أو : خير الماكرين ، قاله الزمخشري .
وهذا القول هو بواسطة الملك ، لأن عيسى ليس بمكلم ، قاله ابن عطية .
و : متوفيك ، هي وفاة يوم رفعه الله في منامه ، قاله الربيع من قوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } أي : ورافعك وأنت نائم ، حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب .
أو : وفاة موت ، قاله ابن عباس .
وقال وهب : مات ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك في السماء ، وفي بعض الكتب : سبع ساعات .
وقال الفراء : هي وفاة موت ، ولكن المعنى : متوفيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، وفي الكلام تقديم وتأخير .
وقال الزمخشري : مستوفي أجلك ، ومعناه أي : عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم .
وقيل : متوفيك : قابضك من الأرض من غير موت ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد ، وابن جريج ، ومطر الوراق ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، من : توفيت مالي على فلان إذا استوفيته .
وقيل : أجعلك كالمتوفي ، لأنه بالرفع يشبهه وقيل : آخذك وافياً بروحك وبدنك وقيل : متوفيك : متقبل عملك ، ويضعف هذا من جهة اللفظ وقال أبو بكر الواسطي : متوفيك عن شهواتك .
قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من : « أن عيسى في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويقتل الدجال ، ويفيض العدل ، وتظهر به الملة ، ملة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحج البيت ، ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة »
{ ورافعك إليّ } الرفع نقل من سفل إلى علو ؛ و : إليّ ، إضافة تشريف .
والمعنى : إلى سمائي ومقر ملائكتي .
وقد علم أن الباري تعالى ليس بمتحيز في جهة ، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان له تعالى وقيل : إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ولا في الظاهر إلاَّ أنا ، بخلاف الأرض ، فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهراً وقيل : إلى محل ثوابك .
قال ابن عباس : رفعه إلى السماء ، سماء الدنيا ، فهو فيها يسبح مع الملائكة ، ثم يهبطه الله عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس قيل : كان عيسى على طور سيناء ، وهبت ريح فهرول عيسى فرفعه الله في هرولته ، وعليه مدرعة من شعر .
وقال الزجاج : كان عيسى في بيت له كوة ، فدخل رجل ليقتله ، فرفع عيسى من البيت وخرج الرجل في شبه عيسى يخبرهم أن عيسى ليس في البيت ، فقتلوه .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن عباس قال : رفع الله عيسى من روزنة كانت في البيت .
{ ومطهرك من الذين كفروا } جعل الذين كفروا دنساً ونجساً فطهره منهم ، لأن صحبة الأشرار وخلطة الفجار تتنزل منزلة الدنس في الثوب ، والمعنى : أنه تعالى يخلصه منهم ، فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير ، وأتى بلفظ الظاهر لا بالضمير ، وهو : الذين كفروا ، إشارة إلى علة الدنس والنجس وهو الكفر ، كما قال : { إنما المشركون نجس } وكما جاء في الحديث : « المؤمن لا ينجس » فجعله علة تطهيره الإيمان .
وقيل : مما قالوه فيك وفي أمك .
وقيل : ومطهرك أي مطهر بك وجه الناس من نجاسة الكفر والعصيان .
وقال الراغب : متوفيك : آخذك عن هواك ، ورافعك إلي عن شهواتك ، ولم يكن ذلك رفعاً مكانياً وإنما هو رفعة المحل ، وإن كان قدر رفع إلى السماء ، وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم .
وقيل : تخليصه من قتلهم ، لأن ذلك نجس طهره الله منه .
قال أبو مسلم : التخليص والتطهير واحد ، إلاَّ أن لفظ التطهير فيه رفعة للمخاطب ، كما أن الشهود والحضور واحد ، وفي الشهود رفعة .
ولهذا ذكره الله في المؤمنين ، وذكر الحضور والإحضار في الكافرين .
{ وجاعل الذين اتبعوك } الكاف : ضمير عيسى كالكاف السابقة .
وقيل : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من تلوين الخطاب .
ومعنى اتبعوك : أي في الدين والشريعة ، وهم المسلمون .
لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع .
{ فوق الذين كفروا } يعلونهم بالحجة ، وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ، والذين كفروا هم الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ، قاله الزمخشري ، بتقديم وتأخير في كلامه .
فالفوقية هنا بالحجة والبرهان ، قاله الحسن .
أو : بالعز والمنعة ، قاله ابن زيد .
فهم فوق اليهود ، فلا تكون لهم مملكة كما للنصارى .
فالآية ، على قوله ، مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة ، فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين ، وجعله حكماً دنيوياً لا فضلية فيه للمتبعين الكفار ، بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود .
وقال الجمهور : بعموم المتبعين ، فتدخل في ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نص عليه قتادة ، وبعموم الكافرين .
والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة ، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره ، وهم الحواريون ، جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم ، وأبقى لهم في الصالحين ذكراً ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من رضوان الله .
وقيل : فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة ، إذ هم في الغرفات ، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات .
وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه هم متبعوه في أصل الإسلام ، فيكون عاماً في المسلمين ، وعاماً في الكافرين ، أوهم متبعوه في الإنتماء إلى شريعته ، وإن لم يتبعوها حقيقة ، يكون الكافرون خاصاً باليهود ، أو متبعوه هم الحواريون ، والكافرون : من كفر به .
وأما الفوقية فإما حقيقة وذلك بالجنة والنار ، وإما مجازاً أي : بالحجة والبرهان ، فيكون ذلك دينياً ، و : إما بالعزة والغلبة فيكون ذلك دنيوياً ، وإما بهما .
{ إلى يوم القيامة } الظاهر أن : إلى ، تتعلق بمحذوف ، وهو العامل في : فوق ، وهو المفعول الثاني : لجاعل ، إذ معنى جاعل هنا مصيِّر ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة ، وهذا على أن الفوقية مجاز ، وأما إن كانت الفوقية حقيقة ، وهي الفوقية بالجنة ، فلا تتعلق : إلاَّ ، بذلك المحذوف ، بل بما تقدّم من : متوفيك ، أو من : رافعك ، أو من : مظهرك ، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها ، أما برافعك أو مطهرك ، فظاهر .
وأما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال .
وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة ، بدأ أولاً : بإخباره تعالى لعيسى أنه متوفيه ، فليس للماكرين به تسلط عليه ولا توصل إليه ، ثم بشره ثانياً : برفعه إلى سمائه وسكناه مع ملائكته وعبادته فيها ، وطول عمره في عبادة ربه .
ثم ثالثاً : برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار ، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه ، وحين ينزله في آخر الدنيا فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولاً وآخراً .
ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان ، بدىء بهما .
ولما كان التطهير عاماً يشمل سائر الأزمان أخر عنهما ، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث ، وهي أوصاف له في نفسه ، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر ، لتقرّ بذلك عينه ، ويسر قلبه .
ولما كان هذا الوصف من إعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه ، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه ، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم ، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا ، ليكمل بذلك سروره بما أوتيه ، وأوتي تابعوه من الخير .
{ ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } هذا إخبار بالحشر والبعث ، والمعنى ثم إلى حكمي ، وهذا عندي من الالتفات ، لأنه سبق ذكر مكذبيه : وهم اليهود ، وذكر من آمن به ؛ وهم الحواريون .
وأعقب ذلك قوله : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } فذكر متبعيه الكافرين ، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب : ثم إليّ مرجعهم ، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد ، وأشد زجراً لمن يزدجر .
ثم ذكر لفظة : إليّ ، ولفظة : فأحكم ، بضمير المتكلم ، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية ، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم ، وأتى بالحكم مبهماً ، ثم فصل المحكوم بينهم إلى : كافر ومؤمن ، وذكر جزاء كل واحد منهم .
وقال ابن عطية : مرجعكم ، الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر ، فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده ، فخاطبه كما يخاطب الجماعة ، إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.