البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

الإركاس : الرد والرجع .

قيل : من آخره على أوله ، والركس : الرجيع .

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في « الروثة هذا ركس » وقال أمية بن أبي الصلت :

فأركسوا في حميم النار أنهم *** كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا

وحكى الكسائي والنضر بن شميل : ركس وأركس بمعنى واحد أي : رجعهم .

ويقال : ركَّس مشدّداً بمعنى أركس ، وارتكس هو أي ارتجع .

وقيل : أركسه أوبقه قال :

بشؤمك أركستني في الخنا *** وأرميتني بضروب العنا

وقيل : أضلهم .

وقال الشاعر :

وأركستني عن طريق الهدى *** وصيرتني مثلاً للعدا

وقيل : نكسه .

قاله الزجاج قال :

ركسوا في فتنة مظلمة *** كسواد الليل يتلوها فتن

{ فما لكم في المنافقين فئتين } ذكروا في سبب نزولها أقوالاً طولوا بها وملخصها : أنّهم قوم أسلموا فاستوبئوا المدينة فخرجوا ، فقيل لهم : أما لكم في الرسول أسوة ؟ أو ناس رجعوا من أحد لِما خرج الرسول ، وهذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت .

أو ناس بمكة تكلموا بالإسلام وهم يعينون الكفار ، فخرجوا من مكة .

قال الحسن ، ومجاهد : خرجوا الحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين ، اخرجوا إليهم فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم .

وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلموا بالإسلام ؟ رواه ابن عطية عن ابن عباس .

أو قوم قدموا المدينة وأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك ، أو قوم أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة قاله : الضحاك .

أو العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يساراً ، أو المنافقون الذين تكلموا في حديث الإفك .

وما كان من هذه الأقوال يتضمن أنهم كانوا بالمدينة ، يردّه قوله : { حتى يهاجروا في سبيل الله } إلا إنْ حملت المهاجرة على هجرة ما نهى الله عنه ، والمعنى : أنه تعالى أنكر عليهم اختلافهم في نفاق من ظهر منه النفاق أي : من ظهر منه النفاق قطع بنفاقه ، ولو لم يكونوا بادياً نفاقهم ، لما أطلق عليه اسم النفاق .

وفي المنافقين متعلق بما تعلق به لكم ، وهو كائن أي : أيّ شيء كائن لكم في شأن المنافقين .

أو بمعنى فئتين أي : فرقتين في أمر المنافقين .

وانتصب فئتين على الحال عند البصريين من ضمير الخطاب في لكم ، والعامل فيها العامل في لكم .

وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على إضمار كان أي : كنتم فئتين .

ويجيزون مالك الشاتم أي : كنت الشاتم ، وهذا عند البصريين لا يجوز ، لأنه عندهم حال ، والحال لا يجوز تعريفها .

{ والله أركسهم بما كسبوا } أي : رجّعهم وردّهم في كفرهم قاله : ابن عباس ، واختار الفراء والزجاج : أوبقهم .

روى عن ابن عباس : أو أضلهم ، قاله السدي .

أو أهلكهم قاله قتادة ، أو نكسهم قاله الزجاج .

وكلها متقاربة .

ومن عبر به عن الإهلاك فإنه أخذ بلازم الإركاس .

ومعنى بما كسبوا أي : بما أجراه الله عليهم من المخالفة ، وذلك الاركاس هو بخلق الله واختراعه ، وينسب للعبد كسباً .

وقال الزمخشري : والله أرسكهم أي : ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بما كسبوا من ارتدادهم ، ولحوقهم بالمشركين ، واحتيالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أو أركسهم في الكفر بأنْ خذلهم حتى ارتكسوا فيه لما علم من مرض قلوبهم انتهى .

وهو جار على عقيدته الاعتزالية ، فلا ينسب الاركاس إلى الله حقيقة ، بل يؤوّله على معنى الخذلان وترك اللطف ، أو على الحكم بكونهم من المشركين .

إذ هم فاعلو الكفر ومخترعوه ، لا الله تعالى الله عن قولهم .

وقرأ عبد الله : ركسهم ثلاثياً .

وقرئ : ركسهم ركسوا فيها بالتشديد ، قال الراغب : الركس والنكس الرذل ، والركس أبلغ من النكس ، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه ، والركس أصله ما رجع رجيعاً بعد أن كان طعاماً فهو كالرجس وصف أعمالهم به ، كما قال : { إنما المشركون نجس } وأركسه أبلغ من ركسه ، كما أنَّ أسقاه بلغ من سقاه انتهى .

وهذه الجملة في موضع الحال ، أنكر تعالى عليهم اختلافهم في هؤلاء المنافقين في حال أنّ الله تعالى قد ردهم في الكفر ، ومن يرده الله إلى الكفر لا يختلف في كفره .

{ أتريدون أن تهدوا من أضلّ الله } هذا استفهام إنكار أي : من أراد الله ضلاله ، لا يريد أحد هدايته لئلا تقع إرادته مخالفة لإرادة الله تعالى ، ومَن قضى الله عليه بالضلال لا يمكن إرشاده ، ومن أضل الله اندرج فيه المركسون وغيرهم .

ممن أضله الله فكأنه قيل : أتريدون أن تهدوا هؤلاء المنافقين ؟ ومن أضله الله تعالى من غيرهم واندراجهم في عموم من بعد قوله : والله أركسهم ، هو على سبيل التوكيد ، إذ ذكروا أولاً على سبيل الخصوص ، وثانياً على سبيل اندراجهم في العموم .

وقال الزمخشري : أتريدون أن تجعلوا من جملة المهتدين ؟ من أضله الله من جعله من الضلال وحكم عليه بذلك ، أو خذله حتى ضل انتهى .

وهو على طريقته الاعتزالية من أنه لا ينسب الإضلال إلى الله على سبيل الحقيقة .

{ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } أي : فلن تجد لهدايته سبيلاً .

والمعنى : لخلق الهداية في قلبه ، وهذا هو المنفى .

والهداية بمعنى الإرشاد والتبيين ، هي للرسل .

وخرج من خطابهم إلى خطاب الرسول على سبيل التوكيد في حق المختلفين ، لأنه إذا لم يكن له ذلك ، فالأحرى أن لا يكون ذلك لهم .

وقيل : من يحرمه الثواب والجنة لا يجد له أحد طريقاً إليهما .

وقيل : من يهلكه الله فليس لأحد طريق إلى نجاته من الهلاك .

وقيل : ومن يضلل الله فلن تجد له مخرجاً وحجة .

/خ93