البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ} (36)

يعشو : يعرض ، ويعش : يعمى . وقال ابن قتيبة : لم نر أحداً حكى : عشوت عن الشيء : أعرضت عنه ، وإنما يقال : تعاشيت عن كذا وتعاميت ، إذا تغافلت عنه . وتقول : عشوت إلى النار ، إذا استدللت عليها ببصر ضعيف . وقيل : عشى يعشى ، إذا حصلت الآفة في بصره . وعشا يعشو : نظر المعشى ولا آفة به ، كما قال : عرج لمنبه الآفة ، وعرج لمن مشى مشيه العرجان من غير عرج . قال الحطيئة :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره *** تجد حير نارٍ عندها خير موقد

أي : تنظر إليها نظر المعشى ، لما يضعف بصر من عظيم الوقود به ، ومنه قول حاتم :

أعشو إذا ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر

وقرأ : ومن يعش ، بضم الشين ، أي يتعام ويتجاهل عن ذكره ، وهو يعرف الحق .

وقيل : يقل نظره في شرع الله ، ويغمض جفونه عن النظر في : { ذكر الرحمن } .

والذكر هنا ، يجوز أن يراد به القرآن ، واحتمل أن يكون مصدراً أضيف إلى المفعول ، أي يعش عن أن يذكر الرحمن .

وقال ابن عطية : أي فيما ذكر عباده ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل .

انتهى ، كأنه يريد بالذكر : التذكير .

وقرأ يحيى بن سلام البصري : ومن يعش ، بفتح الشين ، أي يعم عن ذكر الرحمن ، وهو القرآن ، كقوله : { صم بكم عمي } وقرأ زيد بن علي : يعشو بالواو .

وقال الزمخشري : على أن من موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وحق هذا القارىء أن يرفع نقيض . انتهى .

ولا يتعين ما قاله ، إذ تتخرج هذه القراءة على وجهين : أحدهما : أن تكون من شرطية ، ويعشو مجزوم بحذف الحركة تقديراً .

وقد ذكر الأخفش أن ذلك لغة بعض العرب ، ويحذفون حروف العلة للجازم .

والمشهور عند النحاة أن ذلك يكون في الشعر ، لا في الكلام .

والوجه الثاني : أن تكون من موصولة والجزم بسببها للموصول باسم الشرط ، وإذا كان ذلك مسموعاً في الذي ، وهو لم يكن اسم شرط قط ، فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولاً وشرطاً .

قال الشاعر :

ولا تحفرن بئراً تريد أخاً بها *** فإنك فيها أنت من دونه تقع

كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً *** تصبه على رغم عواقب ما صنع

أنشدهما ابن الأعرابي ، وهو مذهب الكوفيين ، وله وجه من القياس ، وهو : أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره ، فكذلك يشبه به فينجزم الخبر ، إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسبباً عن الصلة بشروطه المذكورة في علم النحو ، وهذا لا ينفيه البصريون .

وقرأ الجمهور : نقيض ، بالنون ؛ وعلي ، والسلمي ، والأعمش ، ويعقوب ، وأبو عمرو : بخلاف عنه ؛ وحماد عن عاصم ، وعصمة عن الأعمش ، وعن عاصم ، والعليمي عن أبي بكر : بالياء ، أي يقبض الرحمن ؛ وابن عباس : يقبض مبنياً للمفعول .

{ له شيطاناً } : بالرفع ، أي ييسر له شيطان ويعدله ، وهذا عقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح .

كما يقال : إن الله يعاقب على المعصية بالتزايد من السيئات .

وقال الزمخشري : يخذله ، ويحل بينه وبين الشياطين ، كقوله : { وقضينا له قرناء } { ألم تر إنا أرسلنا الشياطين } انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .