يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء .
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمْران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة - يعني ابن الأسقع - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان . وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خلت من رمضان{[3186]} وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " {[3187]} .
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل {[3188]} لثنتَي عشرة [ ليلة ]{[3189]} خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم . رواه ابن مَردُويه .
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل - فنزل كل منها{[3190]} على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] . وقال : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعدُ مفرّقًا{[3191]} بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم . هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السّدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع{[3192]} في قلبي الشك من قول الله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } وقوله : { إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وقد{[3193]} أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع . فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل {[3194]} على مواقع النجوم ترتيلا{[3195]} في الشهور والأيام . رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه .
وفي رواية سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة ، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس .
وفي رواية عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة ، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء ، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه ، وذلك قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33 ] .
[ قال فخر الدين : ويحتمل أنه كان ينزل في كل ليلة قدر ما يحتاج الناس إلى إنزاله إلى مثله من اللوح إلى سماء الدنيا ، وتوقف ، هل هذا أولى أو الأول ؟ وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان ، وحكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وحكى الرازي عن سفيان بن عيينة وغيره أن المراد بقوله : { الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } أي : في فضله أو وجوب صومه ، وهذا غريب جدا ]{[3196]} .
وقوله : { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه { وَبَيِّنَاتٍ } أي : ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقًا بين الحق والباطل ، والحلال ، والحرام .
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال : إلا " شهر رمضان " ولا يقال : " رمضان " ؛ قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، وسعيد - هو المقْبُري - عن أبي هريرة ، قال : لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان .
قال{[3197]} ابن أبي حاتم : وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت .
قلت : أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [ في ]{[3198]} المغازي ، والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي{[3199]} - وهو جدير بالإنكار - فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال : " باب يقال{[3200]} رمضان " {[3201]} وساق أحاديث في ذلك منها : " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " ونحو ذلك .
وقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حَتْمٍ على من شهد استهلال الشهر - أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان ، وهو صحيح في بدنه - أن يصوم لا محالة . ونَسَخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحًا مقيما أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم ، كما تقدم بيانه . ولما حتَّم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار ، بشرط القضاء فقال : { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه : ومن كان به مرض في بدنه يَشُقّ عليه الصيام معه ، أو يؤذيه{[3202]} أو كان على سفر أي في حال سفر - فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه بعدة ما أفطره في السفر من الأيام ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } أي : إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح ، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم .
وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية :
إحداها : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر في أثنائه ، فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه ، لقوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المُحَلى ، عن جماعة من الصحابة والتابعين . وفيما حكاه عنهم نظر ، والله أعلم . فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح ، فسار{[3203]} حتى بلغ الكَديد ، ثم أفطر ، وأمر الناس بالفطر . أخرجه صاحبا الصحيح{[3204]} .
الثانية : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر ، لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والصحيح قول الجمهور ، أن الأمر في ذلك على التخيير ، وليس بحَتْم ؛ لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان . قال : " فَمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائمُ على المفطر ، ولا المفطر على الصائم{[3205]} " . فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم {[3206]} الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائمًا ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء [ قال ]{[3207]} خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في شهر رمضان ]{[3208]} في حَرٍّ شديد ، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [ من شدة الحر ]{[3209]} وما فينا صائم إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة{[3210]} .
الثالثة : قالت طائفة منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل ، أخذا بالرخصة ، ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الصوم في السفر ، فقال : " من أفطر فحَسَن ، ومن صام فلا جناح عليه " {[3211]} . وقال في حديث آخر :
" عليكم برخصة الله التي رخص لكم " {[3212]} وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة : أن حَمْرة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ، إني كثير الصيام ، أفأصوم في السفر ؟ فقال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " . وهو في الصحيحين{[3213]} . وقيل : إن شق الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظُلِّلَ عليه ، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : صائم ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " . أخرجاه{[3214]} . فأما إن رغب عن السنة ، ورأى أن الفطر مكروه إليه ، فهذا يتعين عليه الإفطار ، ويحرم عليه الصيام ، والحالة هذه ، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره ، عن ابن عمر وجابر ، وغيرهما : من لم يقبل رُخْصَةَ الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة{[3215]} .
الرابعة : القضاء ، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التفريق ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه يجب التتابع ؛ لأن القضاء يحكي الأداء . والثاني : لا يجب التتابع ، بل إن شاء فَرّق ، وإن شاء تابع . وهذا قول جُمهور السلف والخلف ، وعليه ثبتت الدلائل{[3216]} ؛ لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدَّةَ ما أفطر . ولهذا قال تعالى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ثم قال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا ابن{[3217]} هلال ، عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي قتادة ، عن الأعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره " {[3218]} .
وقال أحمد أيضًا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم بن هلال ، حدثنا غاضرة بن عُرْوة الفُقَيْمي ، حدثني أبي عُرْوَة ، قال : كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رَجلا{[3219]} يَقْطُرُ رأسه من وضوء أو غسل ، فصلى ، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه : علينا حرج في كذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن دين الله في يسر " ثلاثًا يقولها{[3220]} .
ورواه الإمام أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم ، عن عاصم بن هلال ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : حدثنا أبو التيّاح ، سمعت أنس بن مالك يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يسروا ، ولا تعسروا ، وسكِّنُوا ولا تُنَفِّروا " . أخرجاه في الصحيحين{[3221]} . وفي الصحيحين أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " . وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت بالحنيفيَّة السمحة " {[3222]} .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يحيى ابن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو مسعود الجُرَيري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن مِحْجَن بن الأدرع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره{[3223]} ساعة ، فقال : " أتراه يصلي صادقًا ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ، هذا أكثر أهل المدينة صلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُسْمِعْه فَتُهلِكَه " . وقال : " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليُسْر ، ولم يرد بهم العُسْر " {[3224]} .
ومعنى قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } أي : إنما أرْخَصَ لكم في الإفطار للمرض{[3225]} والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم .
وقوله : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [ البقرة : 200 ] وقال : [ { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } ] {[3226]} [ النساء : 103 ] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] وقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } [ ق : 39 ، 40 ] ؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات .
وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ؛ لظاهر الأمر في قوله { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة - رحمه الله - أنه لا يُشْرَع التكبير في عيد الفطر . والباقون على استحبابه ، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم .
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .
قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات ، فقوله : شهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان } خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان ، والجملة مستأنفة بيانياً ، لأن قوله : { أياماً معدودات } [ البقرة : 184 ] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام ، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد { شهراً } بالنصب على البدلية من { أياماً } : بدل تفصيل .
وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره ، وإذا جَوَّزتَ أن يكون هذا الكلام نسخاً لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبره قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، واقتران الخبر بالفاء حينئذٍ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب ، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله :
*وقائلةٍ خَوْلاَنُ فانكِحْ فَتاتهم{[175]} *
أنشده سيبويه ، وكلا هذين الوجهين ضعيف .
والشهر جزء من اثني عشر جزءاً من تقسيم السنة قال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض } [ التوبة : 36 ] والشهر يبتدىء من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى ، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم .
ورمضان علم وليس منقولاً ؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفَعلان من رمِض بكسر الميم إذا احترق ؛ لأن الفَعَلان ، يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا ، وقيل هو منقول عن المصدر . ورمضان علَم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم ؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم ؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم ، ألا ترى أن لَبيداً جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهراً سادساً إذ قال :
حَتَّى إذا سَلخا جُمادى سِتَّةً *** جَزْءاً فطال صيامُه وصيامها
ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران : الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر ، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرُّطَب والتمر وشهراه شهرُ ربيع الأولُ وشهرُ ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر ، ألا ترى أن العرب يقولون « الرطب شهري ربيع » ، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم :
في ليلةٍ من جمادَى ذاتتِ أَنْدَيةٍ *** لاَ يُبصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِها الظُّنُبَا
لاَ يَنَبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحِدَةٍ *** حتَّى يَلُفَّ علَى خَيشُومِهِ الذَّنبَــا
الرابع الربيع الثاني - والثاني وصف للربيع - وهذا هو وقت ظهور النَّور والكَمْأَةِ وشهراه رجبٌ وشعبان ، وهو فصل الدَّر والمطَر قال النابغة يذكر غَزَوات النعمان ابن الحارث :
وكانَتْ لَهْم رَبْعِيَّةٌ يَحْذَرُونَها *** إذا خَضْخَضَتْ ماءَ السماء القبائِلُ
وسَمَّوه الثاني لأنه يجيءُ بعد الربيعِ الأول في حساب السنة ، قال النابغة :
فإن يَهلك أبو قابُوسَ يَهلكْ *** رَبِيعُ الثَّانِ والبَلَدُ الحَرامُ
في رواية وراوي « ربيعُ الناس » ، وسموا كلا منهما ربيعاً لأنه وقت خصب ، الفصل الخامس ، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال ، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب . السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة .
وبعض القبائل تقسم السنة إِلى أربعة ، كل فصل له ثلاثة أشهر ؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان ، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة ، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول ، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع وجمادى الأولى وجمادى الثانية .
ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوماً وكسراً ، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبساً بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء .
وأسماء الشهور كلِّها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني ؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول ، فالأول والثاني صفتان لشهر ، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده مثل شجر الأراك ومدينة بغداد ، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال : إنه لا يقال رمضان إلاّ بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر ، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علماً فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططاً وخالف ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم " من صام ر مضان إيماناً واحتساباً " بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في « أدب الكاتب » .
وإنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يتقضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم ؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهراً لا نصاً ، لا سيما مع تقدم قوله { أياماً } [ البقرة : 184 ] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان .
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفاً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كان ذلك حلوله مكرراً في كل عام كان وجوب الصوم مكرراً في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه جميعُ الأزمنة المسماةُ به طول الدهر .
وظاهر قوله : { الذي أنزل فيه القرآن } أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان ، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالماً باختصاصها بمن أجرى عليه الموصول ، ولأن مثل هذا الحدَث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم ، فيكون الكلام تذكيراً بهذا الفضل العظيم ، ويجوز أيضاً أن يكون إعلاماً بهذا الفضل وأجري الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه الصلة بحيث تجعل طريقاً لمعرفته ، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية بل ذلك غَرض أغلبي كما يشهد به تتبع كلامهم ، وليس المقصود الإخبارَ عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن ، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبراً لأن لفظ { شهر رمضان } خبر وليس هو مبتدأ ، والمراد بإنزال القرآن ابتداءُ إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه ؛ لأن ذلك القدْر المنزل مقَدَّرٌ إلحاق تكملته به كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد ، وقد تقدم عند قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } ومعنى { الذي أنزل فيه } أنزل في مثله ؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين ، فإن صيام رمضان فرض من السنة الثانية للهجرة فَبَيْن فرض الصيام والشهرِ الذي أنزل فيه القرآن حقيقةً عدةُ سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر .
فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتباراً يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد ، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدَار كما قال تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلاً مستمراً تنويهاً بكونها تذكرة لأمر عظيم ، ولعل هذا هو الذي جعَل الله لأجله سنة الهدي في الحج ، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلَى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عَزْم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمّة .
وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوماً متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين . ولما كان ذلك هو المراد وُقِّتَ بشهر معيَّن وجعل قمرياً لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير ، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شُرف بنزول القرآن فيه ، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة المَلَكية واقعاً فيه ، والأغلب على ظني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن يُنزل عليه الوحي إلهاماً من الله تعالى وتلقيناً لبقية من الملة الحنيفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر ، روَى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « جاورت بحِراء شهرَ رمضان » وقال ابن سعد : جاءه الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة حلت من رمضان .
وقوله : { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } حالان من ( القرآن ) إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان .
والمراد بالهدى الأول : ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة ، وبالبينات من الهدى : ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير مِن الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية . والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفَرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام ، فالمراد بالهدى الأول : ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني ، فلا تكرار .
تفريع على قوله : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } الذي هو بيان لقوله { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله : { كتب عليكم الصيام } من استيناسٍ وتنويهٍ بفضل الصيام وما يرجى من عوده على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام .
وضمير { منكم } عائد إلى { الذين أمنوا } [ البقرة : 183 ] مثل الضمائر التي قبله ، أي كل من حضر الشهر فليصمه ، و { شهد } يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال : إن فلاناً شهد بَدراً وشهد أُحُداً وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل { شَهِد } أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافراً ، وهو المناسب لقوله بعده : { ومن كان مريضاً أو على سفر } . الخ . أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويُفهم أن مَن حضر بعضه يصوم أيام حضوره .
ويجوز أن يكون { شهد } بمعنى عَلِم كقوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر ، وليس شهد بمعنى رأى ؛ لأنه لا يقال : شهد بمعنى رأى ، وإنما يقال شَاهد ، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في « الأساس » قول ذي الرمة :
فأصبح أَجلَى الطَّرْفِ ما يستزيده *** يَرى الشهرَ قبل الناس وهو نَحيل
أي يرى هلال الشهر ؛ لأن الهلال لا يصح أن يتعدى إليه فعل { شهد } بمعنى حضر ومَن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بيناً وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل ، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تُفطروا حتى تروه فإنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له " وفي معنى الإقدار له محامل ليست من تفسير الآية .
وقرأ الجمهور : ( القُرْءَان ) بهمزة مفتوحة بعد الراء الساكنة وبعد الهمزة ألف ، وقرأهُ ابن كثير براء مفتوحة بعدها ألف على نقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة لقصد التخفيف .
وقوله : { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة } قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله : { فمن كان منكم مريضاً } [ البقرة : 184 ] أنه لما كان صوم رمضان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] الخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله { شهر رمضان } الآية وصار الصوم واجباً على التعيين خيف أن يظُنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضاً حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحاً ببقاء تلك الرخصة ، ونُسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير ، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها ، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله : { ومن كان مريضاً } لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم ، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقاً بالسامعين ، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } إذا كان شهد بمعنى تحقق وعَلِم ، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } .
{ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } .
استئناف بياني كالعلة لقوله : { ومن كان مريضاً } الخ بيَّن به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاءَ لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة .
وقوله : { ولا يريد بكم العسر } نفي لضد اليسر ، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملةُ قصر نحو أن يقول : ما يريد بكم إلاّ اليسر ، لكنه عُدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداءً هو جملة الإثبات لتكون تعليلاً للرخصة ، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيداً لها ، ويجوز أن يكون قوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } تعليلاً لجميع ما تقدم من قوله : { كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم .
وقرأ الجمهور : ( اليُسْر ) و ( العُسْر ) بسكون السين فيهما ، وقرأه أبو جعفر بضم السين ضمةَ إتباع .
عطف على جملةٍ : { يريد الله بكم اليسر } الخ ؛ إذ هي في موقع العلة كما علمتَ ؛ فإن مجموعَ هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : { فمن شهد منكم الشهر } إلى قوله : { فعدة من أيام أُخر } .
واللام في قوله : { ولتكبروا } تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر أي مادة أمَرَ اللذين مفعولهما أنْ المصدرية مع فعلها ، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه فعل الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] قال في « الكشاف » : أصله يريدون أن يطفئوا ، ومنه قوله تعالى : { وأُمرت لأن أكون أول المسلمين } [ الزمر : 12 ] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأنْ ظاهرةٍ أو مقدرةٍ .
والمعنى : يريد الله أن تُكملوا العدة وأن تُكبروا الله ، وإكمالُ العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها مَن وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة ، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها ، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف .
وقرأ الجمهور : ( ولتُكْملوا ) بسكون الكاف وتخفيف الميم مضارع أكمل وقَرأه أبو بكر عن عاصم ويعقوب بفتح الكاف وتشديد الميم مضارع كَمَّل .
وقوله : { ولتكبروا الله على ما هداكم } عطف على قوله : { ولتكملوا العدة } ، وهذا يتضمن تعليلاً وهو في معنى علة غيرِ متضمنةٍ لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه .
والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني ، والكِبَر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها ، أي لتصفوا الله بالعظمة ، وذلك بأن تقولوا : الله أكبر ، فالتفعيل هنا مأخوذ من فَعَّلَ المنحوتِ من قولٍ يقوله ، مثل قولهم : بَسْمل وحَمْدل وهَلَّل وقد تقدم عند الكلام على البسملة ، أي لتقولوا : الله أكبر ، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الوَاقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة ، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة ، وإثبات الأعظمية لله في كلمة ( الله أكبر ) كناية عن وحدانيته بالإلهية ، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية ، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئاً من النقص ، ولذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله ، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم ، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية ، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد .
وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأَكل والتلطيخ بالدماء ، فكان لقول المسلم : الله أكبر ، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام .
وقوله : { ولعلكم تشكرون } تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة { ولتكبروا الله على ما هداكم } فإن التكبير تعظيم يتضمن شكراً والشكر أعم ، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القُرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر ، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر .
وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير ؛ إذ جعلتْه مما يريده الله ، وهو غير مفصَّل في لفظ التكبير ، ومجملٌ في وقت التكبير ؛ وعدده ، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال .
فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر ، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثاً ، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك والشافعي : إذا شاء المرءُ زاد على التكبير تهليلاً وتحميداً فهو حسن ولا يترك الله أكبر ، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال : لا إله إلاّ الله والله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس ، وقال أحمد : هو واسع ، وقال أبو حنيفة : لا يجزىء غير ثلاث تكبيرات .
وأما وقته : فتكبير الفطر يبتدىء من وقت خروج المصلي من بيته إلى محل الصلاة ، وكذلك الإمامُ ومَنْ خرج معه ، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير ، ويسن في أول كل ركعة من ركعتي صلاة العيد افتتاح الأولى بسبع تكبيرات والثانية بست ، هذا هو الأصح مما ثبت في الأخبار وعمل به أهل المدينة من عهد النبي عليه الصلاة والسلام فما بعده وتلقاه جمهور علماء الأمصار ، وفيه خلاف كثير لا فائدة في التطويل بذكره والأمر واسع ، ثم يكبر الإمام في خطبة صلاة العيد بعد الصلاة ويكبر معه المصلون حين تكبيره وينصتون للخطبة فيما سوى التكبير .
وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعُروة بن الزبير والشافعي : يكبر الناس من وقت استهلال هلال الفطر إلى انقضاء صلاة العيد ثم ينقطع التكبير ، هذا كله في الفطر فهو مورد الآية التي نحن بصدد تفسيرها .
فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صلاة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه ، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى : { واذكروا الله في أياممٍ معدودات } [ البقرة : 203 ] .