تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، معظما لربك ومتوكلا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا إليه : { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي : أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن .

وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان ، والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ما تعاقب الليل والنهار . ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]{[4924]} } أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم{[4925]} عليه في أمره ، حيث قال : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .

قال الله تعالى ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ] {[4926]} } الآية [ الزخرف : 32 ] أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ

[ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ]{[4927]} } [ الإسراء : 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " إسحاق بن أحمد " من تاريخه عن المأمون الخليفة : أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ، فإذا هو : باسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك . ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك{[4928]} .


[4924]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[4925]:في أ، و: "تحكم".
[4926]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[4927]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[4928]:تاريخ دمشق لابن عساكر (2/706 المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (4/264).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأنّ إعراضهم إنّما هو حسد على زوال النبوءة منهم ، وانقراض الملك منهم ، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنّه لا عجب أن تنتقل النبوءة من بني إسرائيل إلى العرب ، مع الإيماء إلى أنّ الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والمُلك .

و { اللهم } في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء ، ومعناه يا الله . ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة : إنّ الميم عوض من حرف النداء يريدون أنّ لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لما لم يقع إلاّ عند إرادة الدعاء صار غنيّاً عن جلب حرف النداء اختصاراً ، وليس المراد أنّ الميم تفيد النداء . والظاهر أنّ الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة ( اللَّهم ) من عبرانية أو قحطانية وأنّ أصلها لاَ هُم مرداف إله .

ويدل على هذا أنّ العرب نطقوا به هكذا في غير النداء كقول الأعشى :

كدعوةٍ من أبي رباح *** يَسْمَعُها اللهُم الكبير

وأنّهم نطقوا به كذلك مع النداء كقوللِ أبي خراش الهذلي :

إنِّي إذا ما حَدَتٌ ألَمَّا *** أقُول يا اللهُمّ يا اللهُمّا

وأنّهم يقولون يا الله كثيراً . وقال جمهور النحاة : إنّ الميم عوض عن حرف النداء المحذوف وإنّه تعويض غير قياسي : وإنّ ما وقع على خلاف ذلك شذوذ . وزعم الفراء أنّ اللهم مختزل من اسم الجلالة وجملة أصلها « يا الله أمّ » أي أقبل علينا بخير ، وكل ذلك تكلّف لا دليل عليه .

والمالك هو المختصّ بالتصرّف في شيء بجميع ما يتصرّف في أمثاله مما يُقصد له من ذواتها ، ومنافعها ، وثمراتها ، بما يشاء فقد يكون ذلك بالانفراد ، وهو الأكثر ، وقد يكون بمشاركةٍ : واسعةٍ ، أو ضيّقة .

والمُلك بضم الميم وسكون اللام نوع من المِلك بكسر الميم فالملك بالكسر جنسٌ والمُلك بالضم نوعٌ منه وهو أعلى أنواعه ، ومعناه التصرّف في جماعة عظيمة ، أو أمة عديدة تصرُّف التدبير للشؤون ، وإقامةِ الحقوق ، ورعاية المصالح ، ودفع العدوان عنها ، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها ، بالرغبة والرهبة . وانظر قوله تعالى : { قالوا أنّى يكون له المُلك علينا } في سورة البقرة ( 247 ) وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] ، فمعنى مالك الملك أنّه المتصرّف في نوع الملك ( بالضم ) بما يشاء ، بأن يراد بالمُلك هذا النوع . والتعريف في المُلك الأول لاستغراق الجنس : أي كل ملك هو في الدنيا . ولما كان المُلك ماهية من المواهي ، كان معنى كون الله مالك المُلك أنّه المالك لتصريف المُلك ، أي لإعطائه ، وتوزيعه ، وتوسيعه ، وتضييقه ، فهو على تقدير مضاف في المعنى .

والتعريف في المُلك الثاني والثالث للجنس ، دون استغراق أي طائفة وحصّة من جنس المُلْك ، والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن .

ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران : 26 ] فإنّ إيتاءه ونزعه مقول عليه بالتشكيك : إيجاباً ، وسلباً ، وكثرة وقلّة .

والنزع : حقيقة إزالة الجِرم من مكانه : كنزع الثوب ، ونزع الماء من البئر ، ويستعار لإزالة الصفات والمعاني كما قال تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غلّ } [ الأعراف : 43 ] بتشبيه المعنى المتمكّن بالذات المتّصلة بالمكان ، وتشبيه إزالته بالنزع ، ومنه قوله هنا : { تنزع الملك } أي تزيل وصف الملك ممّن تشاء .

وقوله : { بيدك الخير } تمثيل للتصرّف في الأمر ؛ لأنّ المتصرّف يكون أقوى تصرّفه بوضع شيء بيده ، ولو كان لا يوضع في اليد ، قال عنترة بن الأخرس المَعْني الطائي :

فما بيديك خير أرتجيه *** وغيرُ صدودَك الخطبُ الكبير

وهذا يعدّ من المتشابه لأنّ فيه إضافة اليد إلى ضمير الجلالة ، ولا تشابه فيه : لظهور المراد من استعماله في الكلام العربي . والاقتصار على الخير في تصرّف الله تعالى اكتفاء كقوله تعالى : { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] أي والبرد .

وكان الخير مقتضى بالذات أصالة والشرّ مقتضى بالعَرَض قال الجلال الدواني في شرح ديباجة هياكل النور :

« وخُص الخير هنا لأنّ المقام مقام ترجّي المسلمين الخير من الله ، وقد علم أنّ خيرهم شرّ لضدّهم كما قيل :

* مصائب قوم عند يوم فوائدُ *

أي « الخير مقتضَى الذات والشرّ مقتضي بالعرض وصادر بالتَبع لِمَا أنّ بعض ما يتضمن خيرات كثيرة هو مستلزم لشرّ قليل ، فلو تركت تلك الخيرات الكثيرة لذلك الشرّ القليل ، لصار تركها شرّاً كثيراً ، فلما صدر ذلك الخير لزمه حصول ذلك الشرّ » .