قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كَيْسان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيَّب قال : " البحيرة " : التي يُمْنَعُ درّها للطواغيت ، فلا يَحْلبها{[10456]} أحد من الناس . و " السائبة " : كانوا يسيبونَها لآلهتهم ، لا يحمل عليها شيء - قال : وقال{[10457]} أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت عمْرَو بن عامر الخزاعي يجُرّ قُصْبَه في النار ، كان أول من سيب السوائب " - و " الوصيلة " : الناقة البكر ، تُبَكّر في أول نتاج الإبل ، ثم تُثَنّي بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم ، إن وصلت إحْدَاهما بالأخرى ليس بينهما ذكَر . و " الحام " : فحل الإبل يَضربُ الضرّابَ المعدود ، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوه للطواغيت ، وأعفوه عن الحَمْل ، فلم يُحْمَل عليه شيء ، وسَمّوه{[10458]} الحامي .
وكذا رواه مسلم والنسائي ، من حديث إبراهيم بن سعد ، به . {[10459]}
ثم قال البخاري : وقال لي أبو اليمان : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : سمعت سعيدًا يخبر بهذا . وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه . ورواه ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . {[10460]}
قال الحاكم : أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بُخْت ، عن الزهري . كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في " الأطراف " وسكت ولم ينبه عليه . وفيما قاله الحاكم نظر ، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد ، عن ابن الهاد ، عن الزهري نفسه . {[10461]} والله أعلم .
ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكِرْماني ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ؛ أن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت جَهَنَّم يَحْطِمُ بعضها بعضًا ، ورأيت عَمْرًا يجر قُصْبه ، وهو أول من سيب السوائب " . تفرد به البخاري . {[10462]}
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا يونس بن بُكَير ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن : " يا أكثم ، رأيت عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ، ولا به منك " . فقال أكثم : تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال{[10463]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غَيّر دين إبراهيم ، وبحر البحيرة ، وسيّب السائبة ، وحمى الحامي " . ثم رواه عن هناد ، عن عبدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه أو مثله . {[10464]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عمرو بن مُجَمِّع ، حدثنا إبراهيم الهَجَري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول من سَيَّب السوائب ، وعبد الأصنام ، أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " . تفرد به أحمد من هذا الوجه . {[10465]}
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف أول من سيب السوائب ، وأول من غير دين إبراهيم عليه السلام " . قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : " عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب ، لقد رأيته يجر قُصْبه في النار ، يُؤذي ريحه أهل النار . وإني لأعرف أول من بحر البحائر " . قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : " رجل من بني مُدْلج ، كانت له ناقتان ، فجدع آذانهما ، وحرم ألبانهما ، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك ، فلقد رأيته في النار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه{[10466]} بأخفافهما " . {[10467]}
فعمرو هذا هو ابن لحي بن قَمَعَة ، أحد رؤساء خزاعة ، الذين ولَوا البيت بعد جَرْهم . وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل ، فأدخل الأصنام إلى الحجاز ، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها ، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها ، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام ، عند قوله تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } [ الأنعام : 136 ] إلى آخر الآيات في ذلك .
فأما البحيرة ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبْطُن نظروا إلى الخامس ، فإن كان ذكرًا ذبحوه ، فأكله الرجال دون النساء . وإن كان{[10468]} أنثى جدعوا آذانها ، فقالوا : هذه بحيرة .
وذكر السُّدِّي وغيره قريبًا من هذا .
وأما السائبة ، فقال مجاهد : هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة ، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها ، فإذا ولدت السابع ذكرًا أو ذكرين ، ذبحوه ، فأكله رجالهم دون نسائهم .
وقال محمد بن إسحاق : السائبة : هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر ، سُيّبت فلم تركب ، ولم يُجَزّ وبرها ، ولم يحلب لبنها إلا الضيف .
وقال أبو روق : السائبة : كان الرجل إذا خرج فَقُضيت حاجته ، سَيَّب من ماله ناقة أو غيرها ، فجعلها للطواغيت . فما ولدت من شيء كان لها .
وقال السُّدِّي : كان الرجل منهم إذا قُضيت حاجته أو عُوفي من مرض أو كثر ماله سَيَّب شيئًا من ماله للأوثان ، فمن عرض له من الناس عُوقب بعقوبة{[10469]} في الدنيا .
وأما الوصيلة ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع ، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء ، وإن كان أنثى استحيوها ، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن استحيوهما وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا . رواه ابن أبي حاتم .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : { وَلا وَصِيلَةٍ } قال : فالوصيلة من الإبل ، كانت الناقة تبتكر بأنثى ، ثم تثنى بأنثى ، فسموها الوصيلة ، ويقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم .
وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله .
وقال محمد بن إسحاق : الوصيلة من الغنم : إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن ، توأمين توأمين في كل بطن ، سميت الوصيلة وتركت ، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى ، جعلت للذكور دون الإناث . وإن كانت ميتة اشتركوا فيها .
وأما الحام ، فقال العَوْفي ، عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا لقح فحله عشرًا ، قيل حام ، فاتركوه .
وكذا قال أبو روق ، وقتادة . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وأما الحام فالفحل من الإبل ، إذا وُلد لولده قالوا : حَمى هذا ظهره ، فلا يحملون عليه شيئًا ، ولا يجزون له وبرًا ، ولا يمنعونه من حمى رعي ، ومن حوض يشرب منه ، وإن كان الحوض لغير صاحبه .
وقال ابن وَهْب : سمعت مالكًا يقول : أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل ، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيّبوه .
وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية . وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم ، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي الأحوص الجُشَمي ، عن أبيه مالك بن نَضْلَة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقان من الثياب ، فقال لي : " هل لك من مال ؟ " قلت{[10470]} نعم . قال : " من أيّ المال ؟ " قال : فقلت : من كل المال ، من الإبل والغنم والخيل والرقيق . قال : " فإذا آتاك الله مالا فلْيُرَ عليك " . ثم قال : " تنتج إبلك وافية آذانها ؟ " قال : قلت : نعم . قال : " وهل تنتج الإبل إلا كذلك ؟ " قال : " فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحيرة ، وتشق آذان طائفة منها ، وتقول : هذه حرم ؟ " قلت : نعم . قال : " فلا تفعل ، إن كل ما آتاك الله لك حل " ، ثم قال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } أما البحيرة : فهي التي يجدعون آذانها ، فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها ، فإذا ماتت اشتركوا فيها . وأما السائبة : فهي التي يسيبون لآلهتهم ، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها ، وأما الوصيلة : فالشاة تلد ستة أبطن ، فإذا ولدت السابع{[10471]} جدعت وقطع قرنها ، فيقولون : قد وصلت ، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض . هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث . وقد روي من وجه آخر عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك ، من قوله ، وهو أشبه . {[10472]}
وقد روى هذا الحديث{[10473]} الإمام أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو ، عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن أبيه ، به . وليس فيه تفسير هذه{[10474]} والله أعلم .
وقوله : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي : ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة ، ولكن المشركين افتروا ذلك{[10475]} وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه . وليس ذلك بحاصل لهم ، بل هو وبال عليهم .
استئناف ابتدائي جاء فارقاً بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما نوّه الله به ممّا كانوا عليه من شعائر الحج ، فإنّه لمّا بيّن أنّه جعل الكعبة قياماً للناس وجعل الهدْي والقلائد قياماً لهم ، بيّن هنا أنّ أموراً ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيّب ، فيكون كالبيان لآية { قل لا يستوي الخبيث والطيّب } [ المائدة : 100 ] ، فإنّ البَحيرة وما عطف عليها هنا تشبهُ الهدي في أنّها تحرّر منافعها وذواتها حيّة لأصنامهم كما تهدي الهدايا للكعبة مذكّاة ، فكانوا في الجاهلية يزعمون أنّ الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا ، ولذلك قال الله تعالى : { قل هلمَّ شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا وقال في هذه الآية : { ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب } . فالتصدّي للتفرقة بين الهدي وبين البحيرة والسائبة ونحوهما ، كالتصدّي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله : { إنّ الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] كما تقدّم هنالك . وقد قدّمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس : أنّ ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية .
وممّا يزيدك ثقة بما ذكرته أنّ الله افتتح هذه الآية بقوله : { ما جعل الله } لتكون مقابلاً لقوله في الآية الأخرى { جعل الله الكعبة } [ المائدة : 97 ] . ولولا ما توسّط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلاّ أنّ الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمّنه .
والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع ، لأنّ أصل ( جعل ) إذَا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين ، ثم يستعار إلى التقدير والكتْب كما في قولهم : فرض عليه جعالة ، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } [ المائدة : 97 ] . فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع . فنفي جعلها مُتعيّن لأن يكون المراد منه نفيَ الأمر والتشريع ، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضببِ على من جعله ، كما يقول الرجل لمن فعل شيئاً : ما أمرتك بهذا . فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام ، وذلك مثل قوله : { قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا } [ الأنعام : 150 ] فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه ، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه .
وأدخلت ( مِن ) الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة ، فقد ساوى أن يقال : لاَ بحيرة ولاَ سائبةَ مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يَرضى به فهو حرام .
والبَحيرة بفتح الباء الموحّدة وكسر الحاء المهملة فَعِيلة بمعنى مفعولة ، أي مبحورة ، والبَحْر الشقّ . يقال : بحرَشقّ . وفي حديث حفر زمزم أنّ عبد المطلب بَحَرَها بَحْراً ، أي شقّها ووسّعها . فالبحيرة هي الناقة ، كانوا يشقّون أذنها بنصفين طولاً علامة على تخليتها ، أي أنّها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يَجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم ، أي أصنامهم ، ولا يشرب لبنها إلاّ ضيف ، والظاهر أنّه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه ، فكلّ حيّ من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم . وقد كانت للقبائل أصنام تدين كلّ قبيلة لصنم أو أكثر .
وإنّما يجعلونها بحيرة إذا نُتجت{[226]} عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة . وقيل : إذا نُتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكراً . وإذا ماتت حتف أنفها حلّ أكل لحمها للرجال وحرم على النساء .
والسائبة : البعير أو الناقة يجعل نَذراً عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر ، فيقول : أجعله لله سائبة . فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسّابة ، ولذلك يقال : عبد سائبة ، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال ، وقيل : فاعل بمعنى مفعول ، أي مسيّب .
وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع ، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليُطعموا من ألبانها أبناء السبيل . وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فَقار الظهر ، فيقال لها : صَريم وجمعه صُرُم ، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلّهنّ إناث متتابعة سيّبوها أيضاً فهي سائبة ، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم . والظاهر أنّه يكون مثلها سائبة .
والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى ، فتسمّى الأمّ وصيلة لأنّها وصلت أنثى بأنثى ، كذا فسّرها مالك في رواية ابن وهب عنه ، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرّب بها ، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهراً . وقال الجمهور : الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة ( على اختلاف مصطَلَح القبائل ) فالأخير إذا كان ذكراً ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها ، أي للطواغيت ، وإن أتأمت استحيوهما جميعاً وقالوا : وَصَلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح ، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم ، وهي التي أبطلها الله تعالى ، ولم يتعرّضوا لبقية أحوال الشاة . والأظهر أنّ الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثاً ، جمعاً بين تفسير مالك وتفسير غيره ، فالشاة تسيّب للطواغيت ، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلّها . وعن ابن إسحاق : الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلاّ أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء .
وفي « صحيح البخاري » عن سعيد بن المسيّب : أنّ الوصيلة من الإبل إذا بكّرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثنّي بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم .
وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في سياق البخاري إيهام اغترّ به بعض الشارحين ونبّه عليه في « فتح الباري » . وعلى الوجوه كلّها فالوصيلة فعيلة بمعنى فاعلة .
والحامي هو فحل الإبل إذا نُتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعًى ولا ماء . ويقولون : إنّه حمى ظهره ، أي كان سبباً في حمايته ، فهو حام . قال ابن وهب عن مالك ، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيّبونه ، فالظاهر أنّه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام .
وقوله : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } الاستدراك لرفع ما يتوهّمه المشركون من اعتقاد أنّها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون . والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنّهم يكذّبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنّهم جميعاً يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع . والكذب هو الخبر المخالف للواقع .
والكفّار فريقان خاصّة وعامّة : فأمّا الخاصّة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله ، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عَمْرُو بنُ عامر بن لُحَيّ بضم اللام وفتح الحاء المهملة وياء مشدّدة الخزاعي ، ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بنَ عامر بن لُحَي الخزاعي يجُرّ قُصْبَه بضم القاف وسكون الصاد المهملة أي إمعاءه في النار ، وكان أولَ من سيّب السوائب . ومنهم جنادة بن عوف{[227]} . وعن مالك أنّ منهم رجلاً من بني مُدْلِج هو أول من بحَّر البَحيرة وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رأيته مع عَمرو في النار . رواه ابن العربي . وفي رواية أنّ عَمرو بن لحي أول من بحّر البحيرة وسيّب السائبة . وأصحّ الروايات وأشهرها عن رسول الله : أنّ عمرو بن لحي أول من سيّب السوائب ولم يذكر البحيرة .
وأمّا العامّة فهم الذين اتّبعوا هؤلاء المضلّين عن غير بصيرة ، وهم الذين أريدوا بقول : { وأكثرهم لا يعقلون } . فلمّا وصف الأكثر بعدم الفهم تعيّن أنّ الأقلّ هم الذين دبّروا هذه الضلالات وزيّنوها للناس .
والافتراء : الكذب . وتقدّم عند قوله تعالى : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } في سورة آل عمران ( 94 ) .
وفي تسمية ما فعله الكفّار من هذه الأشياء افتراء وكذباً ونفي أن يكون الله أمر به ما يدلّ على أنّ تلك الأحداث لا تمتّ إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين : إحداهما : أنّها تنتسب إلى الآلهة والأصنام ، وذلك إشراك وكفر عظيم . الثانية : أنّ ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضرّه أكثر من نفعه ، لأنّ في تسييب الحيوان إضرار به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى ، وربما عدت عليه السباع ، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه . وما يحصل من درّ بعضها للضيف وابن السبيل إنّما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافّة به .