يقول تعالى : { يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ } أي : الوحي كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] .
وقوله : { عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الأنبياء ، كما قال : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقال : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] ، وقال : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ غافر : 15 ، 16 ] .
وقوله : { أَنْ أَنْذِرُوا } أي : لينذروا { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } [ كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } ]{[16314]} { فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال في هذه [ الآية ]{[16315]} : { فَاتَّقُونِ } أي : فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «ينزّل » بالياء وشد الزاي ، ورجحها الطبري لما فيها من التكثير ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مكسورة وسكون النون ، وقرأ ابن أبي عبلة بالنون التي للعظمة وشد الزاي ، وقرأ قتادة بالنون وتخفيف الزاي وسكون النون ، وفي هذه والتي قبلها شذوذ كثير{[7242]} ، وقرأ أبو عمرو عن عاصم «تُنزَّل الملائكةُ » بضم التاء وفتح النون والزاي وشدها ورفع «الملائكة » على ما لم يسم فاعله ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ الجحدري بالتاء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي ، وقرأ الحسن وأبو العالية وعاصم الجحدري والأعرج بفتح التاء ورفع «الملائكةُ » على أنها فاعلة ، ورواها المفضل عن عاصم ، و { الملائكة } هنا جبريل : واختلف المتأولون في { الروح } فقال مجاهد ، { الروح } النبوة ، وقال ابن عباس : الوحي ، وقال قتادة : بالرحمة والوحي ، وقال الربيع بن أنس : كلا كلام الله روح ، ومنه قوله تعالى { أوحينا إليك روحاً من أمرنا }{[7243]} [ الشورى : 52 } وقال ابن جريج : الروح شخص له صورة كصورة بني آدم ما نزل جبريل قط إلا وهو معه ، وهو كثير ، وهم ملائكة ، وهذا قول ضعيف لم يأت به سند ، وقال الزجاج : { الروح } ما تحيى به قلوب من هداية الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، فكأن اللفظة على جهة التشبيه بالمقايسة إلى الأوامر التي هي في الأفعال والعبادات كالروح للجسد ، ألا ترى قوله { أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً }{[7244]} [ الأنعام : 122 ] .
قال القاضي أبو محمد : و { من } في هذه الآية على هذا التأويل الذي قدرنا للتبعيض ، وعلى سائر الأقوال لبيان الجنس ، و { من } في قوله { من يشاء } هي للأنبياء ، و { أن } في موضع خفض بدل من { الروح } ، ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الخافض على تقدير بأن أنذروا ، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي ، وقرأ الأعمش «لينذروا أنه » ، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بالألوهية ، ففي ضمن أمرهم مكان خوف ، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ووعيد ، ثم ذكر تعالى ما يقال للأنبياء بالوحي على المعنى ، ولم يذكره على لفظه لأنه لو ذكره على اللفظ لقال «أن أنذروا أنه لا إله إلا الله » ، ولكنه إنما ذكر ذلك على معناه ، وهذا سائغ في الأقوال إذا حكيت أن تحكى على لفظها ، أو تحكى بالمعنى فقط .
كان استعجالُهم بالعذاب استهزاءً بالرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبه ، وكان ناشئاً عن عقيدة الإشراك التي من أصولها استحالة إرسال الرسل من البشر .
وأُتبع تحقيق مجيء العذاب بتنزيه الله عن الشريك فقفّي ذلك بتبرئة الرسول عليه الصلاة والسلام من الكذب فيما يبلغه عن ربّه ووصف لهم الإرسال وصفاً موجزاً . وهذا اعتراض في أثناء الاستدلال على التوحيد .
والمراد بالملائكة الواحد منهم وهو جبرئيل عليه السلام .
والروح : الوحي . أطلق عليه اسم الروح على وجه الاستعارة لأن الوحي به هدي العقول إلى الحقّ ، فشبّه الوحي بالروح كما يشبّه العلم الحقّ بالحياة ، وكما يشبّه الجهل بالموت قال تعالى : { أومن كان ميتاً فأحييناه } [ سورة الأنعام : 122 ] .
ووجه تشبيه الوحي بالروح أن الوحي إذا وعته العقول حلّت بها الحياة المعنوية وهو العلم ، كما أن الروح إذا حلّ في الجسم حلّت به الحياة الحسيّة ، قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ سورة الشورى : 52 ] .
ومعنى من أمره } الجنس ، أي من أموره ، وهي شؤونه ومقدراته التي استأثر بها . وذلك وجه إضافته إلى الله كما هنا وكما في قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } ، وقوله تعالى : { يحفظونه من أمر الله } [ سورة الرعد : 11 ] ، وقوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } [ سورة الإسراء : 85 ] لما تفيده الإضافة من التخصيص .
وقرأ الجمهور { ينزل } بياء تحتية مضمومة وفتح النون وتشديد الزاي مكسورة . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بسكون النون وتخفيف الزاي مكسورة ، و { الملائكة } منصوباً .
وقرأه روح عن يعقوب بتاء فوقية مفتوحة وفتح النون وتشديد الزاي مفتوحة ورفع { الملائكة } على أن أصله تتنزل .
وقوله تعالى : { على من يشاء من عباده } رد على فنون من تكذيبهم ؛ فقد قالوا : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ سورة الزخرف : 31 ] وقالوا : { فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب } [ سورة الزخرف : 53 ] أي كان ملكاً ، وقالوا : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ سورة الفرقان : 7 ] . ومشيئة الله جارية على وفق حكمته ، قال تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ سورة الأنعام : 124 ] .
وأن أنذروا } تفسير لفعل { ينزل } لأنه في تقدير ينزل الملائكة بالوحي .
وقوله : { بالروح من أمره على من يشاء من عباده } اعتراض واستطراد بين فعل { ينزل } ومفسره .
و { أنه لا إله إلا أنا } متعلق ب { أنذروا } على حذف حرف الجر حذفاً مطرداً مع ( أنّ ) . والتقدير : أنذروا بأنه لا إله إلا أنا . والضمير المنصوب ب ( أنّ ) ضمير الشأن . ولما كان هذا الخبر مسوقاً للذين اتّخذوا مع الله آلهة أخرى وكان ذلك ضلالاً يستحقون عليه العقاب جعل إخبارهم بضدّ اعتقادهم وتحذيرهم مما هم فيه إنذاراً .
وفرع عليه { فاتقون } وهو أمر بالتقوى الشاملة لجميع الشريعة .
وقد أحاطت جملة { أن أنذروا } إلى قوله تعالى : { فاتقون } بالشريعة كلها ، لأن جملة { أنذروا أنه لا إله إلا أنا } تنبيه على ما يرجع من الشريعة إلى إصلاح الاعتقاد وهو الأمر بكمال القوة العقلية .
وجملة { فاتقون } تنبيه على الاجتناب والامتثال اللذين هما منتهى كمال القوة العملية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.