تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (77)

يخبر تعالى عن كماله وقدرته على الأشياء ، في علمه غيب السماوات والأرض ، واختصاصه بذلك ، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه [ الله ]{[16609]} تعالى على ما يشاء - وفي قدرته التامة{[16610]} التي لا تخالف ولا تمانع ، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن ، فيكون ، كما قال : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، أي : فيكون ما يريد كطرف العين . وهكذا قال هاهنا : { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، كما قال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] .


[16609]:زيادة من ت.
[16610]:في ف: "العامة".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (77)

وقوله : { ولله غيب السماوات والأرض } الآية ، أخبر الله تعالى أن الغيب له يملكه ويعلمه ، وقوله : { وما أمر الساعة } ، آية إخبار بالقدرة ، وحجة على الكفار ، والمعنى على ما قال قتادة وغيره : ما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله إلا أن يقول لها كن ، فلو اتفق أن يقف على ذلك محصل من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر أو هي أقرب من ذلك ، ف { أو } على هذا ، على بابها في الشك ، وقيل : هي للتخيير{[7386]} ، و «لمح البصر » ، هو وقوعه على المرئي ، وقوى هذا الإخبار بقوله ، { إن الله على كل شيء قدير } . ومن قال : { وما أمر الساعة } له وما إتيانها ووقوعها بكم ، على جهة التخويف من حصولها ، ففيه بعد تجوز كثير ، وبُعْد من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين »{[7387]} ، ومن ذكره ما ذكر من أشراط الساعة ومهلتها ، ووجه التأويل : أن القيامة لما كانت آتية ولا بد ، جعلت من القرب { كلمح البصر } ، كما يقال : ما السنة إلا لحظة ، إلا أن قوله : { أو هو أقرب } ، يرد أيضاً هذه المقالة .


[7386]:قال أبو حيان تعقيبا على ذلك: "والشك والتخيير بعيدان؛ لأن هذا إخبار من الله تبارك وتعالى عن أمر الساعة فالشك مستحيل عليه، ولأن التخيير إنما يكون في المحظورات، كقولهم: خذ من مالي دينارا أو درهما، أو في التكليفات كآية الكفارات {والذين يظاهرون} و[أو] هنا للإبهام على المخاطب، كقوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون}، وقوله تعالى: {أتاها أمرنا ليلا أو نهارا} وهو تعالى قد علم عددهم، ومتى يأتيها أمره كما علم أمر الساعة، ولكنه أوهم على المخاطب". وكون [أو] في الآية للإبهام هو رأي الزجاج، وقد عارض فيه القاضي وقال: لا يصح، لأسباب طويلة.
[7387]:أخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجه، والدارمي، والإمام أحمد في مسنده. (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي). ولفظه كما في البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهذه من هذه، أو قال: كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (77)

كان ممّا حكي من مقالات كفرهم أنهم أقسموا بالله لا يبعث الله من يموت ، لأنهم توهّموا أن إفناء هذا العالم العظيم وإحياء العظام وهي رميم أمر مستحيل ، وأبطل الله ذلك على الفور بأن الله قادر على كل ما يريده .

ثم انتقل الكلام عقب ذلك إلى بسط الدلائل على الوحدانية والقدرة وتسلسل البيان ، وتفنّنت الأغراض بالمناسبات ، فكان من ذلك تهديدهم بأن الله لو يؤاخذ الناس بظلمهم ما ترك على الأرض من دابّة ، ولكنه يمهلهم ويؤخّرهم إلى أجل عَيّنه في علمه لحكمته وحذّرهم من مفاجأته ، فثنى عِنان الكلام إلى الاعتراض بالتذكير بأن الله لا يخرج عن قدرته أعظم فعل مما غاب عن إدراكهم وأن أمر الساعة التي أنكروا إمكانها وغرّهم تأخير حلولها هي مما لا يخرج عن تصرّف الله ومشيئته متى شاءه . فذلك قوله تعالى : { ولله غيب السموات والأرض } بحيث لم يغادر شيئاً مما حكي عنهم من كفرهم وجدالهم إلا وقد بيّنه لهم استقصاءً للإعذار لهم .

ومن مقتِضيات تأخير هذا أنه يشتمل بصريحه على تعليم ، وبإيمائه إلى تهديد وتحذير .

فاللام في قوله : { وللّه غيب السماوات والأرض } لام الملك . والغيب : مصدر بمعنى اسم الفاعل ، أي الأشياء الغائبة . وتقدم في قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ سورة البقرة : 3 ] . وهو الغائب عن أعين الناس من الأشياء الخفيّة والعوالم التي لا تصل إلى مشاهدتها حواسّ المخلوقات الأرضية .

والإخبار بأنها ملك لله يقتضي بطريق الكناية أيضاً أنه عالم بها .

وتقديم المجرور أفاد الحصر ، أي له لا لغيره . ولام الملك أفادت الحصر ، فيكون التقديم مفيداً تأكيد الحصر أو هو للاهتمام .

وأمر { الساعة } : شأنها العظيم . فالأمر : الشأن المهمّ ، كما في قوله تعالى : { أتى أمر الله } [ سورة النحل : 1 ] ، وقول أبي بكر رضي الله عنه : ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، أي شأن وخطب .

و { الساعة } : علم بالغلبة على وقت فناء هذا العالم ، وهي من جملة غيب الأرض .

ولمح البصر : توجّهه إلى المرئيّ لأن اللّمح هو النظر . ووجه الشّبه هو كونه مقدوراً بدون كلفة ، لأن لَمح البصر هو أمكن وأسرع حركات الجوارح فهو أيسر وأسرع من نقل الأرجل في المشي ومن الإشارة باليد .

وهذا التشبيه أفصح من الذي في قول زهير :

فهُنّ ووادي الرّسّ كاليَد للفم

ووجه الشّبه يجوز أن يكون تحقّق الوقوع بدون مشقّة ولا إنظار عند إرادة الله تعالى وقوعه ، وبذلك يكون الكلام إثباتاً لإمكان الوقوع وتحذيراً من الاغترار بتأخيره .

ويجوز أن يكون وجهُ الشّبه السرعةَ ، أي سرعة الحصول عند إرادة الله ، أي ذلك يحصل فَجْأة بدون أمارات كقوله تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } [ سورة الأعراف : 187 ] . والمقصود : إنذارهم وتحذيرهم من أن تبغتهم الساعة ليقلعوا عمّا هم فيه من وقتِ الإنذار .

ولا يتوهّم أن يكون البصر تشبيهاً في سرعة الحصول إذ احتمال معطّل لأن الواقع حارس منه .

وأو } في { أو هو أقرب } للإضراب الانتقالي ، إضراباً عن التشبيه الأول بأن المشبّه أقوى في وجه الشبّه من المشبّه به ، فالمتكلّم يخيّل للسامع أنه يريد تقريب المعنى إليه بطريق التّشبيه ، ثم يعرض عن التّشبيه بأن المشبّه أقوى في وجه الشّبه وأنه لا يجد له شبيهاً فيصرّح بذلك فيحصل التقريب ابتداء ثم الإعراب عن الحقيقة ثانياً .

ثم المراد بالقرب في قوله تعالى : { أقرب } على الوجه الأول في تفسير لمح البصر هو القرب المكاني كناية عن كونه في المقدوريّة بمنزلة الشيء القريب التّناول كقوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ سورة ق : 16 ] .

وعلى الوجه الثاني في تفسيره يكون القرب قرب الزمان ، أي أقرب من لمح البصر حصّة ، أي أسرع حُصولاً .

والتذييل بقوله تعالى : { إن الله على كل شيء قدير } صالح لكلا التفسيرين .