يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } أي : إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف ، { حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا } أي : أهلكتموهم قتلا { فشدوا } [ وثاق ] {[26607]} الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه . والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر ، فإن الله ، سبحانه ، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء ، والتقلل من القتل يومئذ فقال : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 67 ، 68 ] .
ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية - المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه - منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ] } {[26608]} الآية [ التوبة : 5 ] ، رواه العوفي عن ابن عباس . وقاله قتادة ، والضحاك ، والسدي ، وابن جُرَيْج .
وقال الآخرون - وهم الأكثرون - : ليست بمنسوخة .
ثم قال بعضهم : إنما الإمام مُخَيَّر بين المن على الأسير ومفاداته فقط ، ولا يجوز له قتله .
وقال آخرون منهم : بل له أن يقتله إن شاء ، لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي مُعَيط من أسارى بدر ، وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له : " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال : إن تَقْتَلْ تَقْتُلْ ذا دَمٍ ، وإن تمنن تمنن على شاكر ، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعطَ منه ما شئت{[26609]} .
وزاد الشافعي ، رحمه الله ، فقال : الإمام مخير بين قتله أو المن عليه ، أو مفاداته أو استرقاقه أيضا . وهذه المسألة مُحَرّرة في علم الفروع ، وقد دللنا على ذلك في كتابنا " الأحكام " ، ولله الحمد والمنة .
وقوله : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم [ عليه السلام ] . {[26610]} وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال " {[26611]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إبراهيم بن سليمان ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي {[26612]} ، عن جُبَير بن نُفيَر ؛ أن سلمة بن نُفيَل أخبرهم : أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني سَيَّبْتُ الخيل ، وألقيت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، وقلت : " لا قتال " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " الآن جاء القتال ، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يُزيغ{[26613]} الله قلوب أقوام فيقاتلونهم : ويرزقهم الله {[26614]} منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك . ألا إن عُقْرَ دار المؤمنين الشام ، والخيلُ معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " .
وهكذا رواه النسائي من طريقين ، عن جُبَيْر بن نُفَير ، عن سلمة بن نُفَيْل السكوني ، به{[26615]} .
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رُشَيْد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجُرَشي ، عن جبير بن نُفَير ، عن النواس بن سمعان قال : لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَتْح فقالوا : يا رسول الله ، سيبت الخيل ، ووضعت السلاح ، ووضعت الحرب أوزارها ، قالوا : لا قتال ، قال : " كذبوا ، الآن ، جاء القتال ، لا يزال الله يُرَفِّع {[26616]} قلوب قوم يقاتلونهم ، فيرزقهم منهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، وعُقْر دار المسلمين بالشام " .
وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رُشَيْد ، به {[26617]} . والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نُفَيْل كما تقدم . وهذا يقوي القول بعدم النسخ ، كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى ألا يبقى حرب .
وقال قتادة : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك . وهذا كقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [ البقرة : 193 ] . ثم قال بعضهم : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : أوزار المحاربين ، وهم المشركون ، بأن يتوبوا إلى الله عز وجل . وقيل : أوزار أهلها {[26618]} بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله ، عز وجل .
وقوله : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي : هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونَكَال من عنده ، { وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي : ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم ، ويبلو أخباركم . كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي " آل عمران " و " براءة " في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] .
وقال في سورة براءة : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 ، 15 ] .
ثم لما كان من شأن القتال أن يُقتل كثيرٌ من المؤمنين ، قال : { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها . ومنهم من يجري عليه عمله في طول بَرْزَخه ، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال :
حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن كثير بن مُرّة {[26619]} ، عن قيس الجذامي - رجل كانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه : يُكَفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حُلَّة {[26620]} الإيمان " {[26621]} . تفرد {[26622]} به أحمد رحمه الله .
حديث آخر : قال أحمد{[26623]} أيضا : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن بَحِير{[26624]} ابن سعيد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دَفْعَة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حُلَّة{[26625]} الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويَأمَن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويُشَفَّع في سبعين إنسانا من أقاربه " .
وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجه{[26626]} .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عَمْرو ، وعن أبي قتادة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّيْن " {[26627]} . وروي من حديث جماعة من الصحابة ، وقال أبو الدرداء : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته " . ورواه أبو داود{[26628]} . والأحاديث في فضل الشهيد{[26629]} كثيرة جدا .
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10349]} [ التوبة : 5 ] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد ، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه{[10350]} . وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه : إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك ، والمن والفداء ثابت ، وقد منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال ، وفادى أسرى بدر ، وقاله الحسن ، وقال : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلاً برجل ، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال . وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين . وقالت فرقة : هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط ، ففيهم المن والفداء ، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل . وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان . وقوله هنا : { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هناك : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10351]} [ التوبة : 5 ] وصرح هنا بذكر المن والفداء ، ولم يصرح به هنالك ، وهو مراد متقرر ، وهذا هو القول القوي .
وقوله : { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل ، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره ، والمراد : اقتلوهم بأي وجه أمكن ، وقد زادت آية : { واضربوا منهم كل بنان }{[10352]} [ الأنفال : 12 ] وهي من أنكى ضربات الحرب ، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده ، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها . و : { أثخنتموهم } معناه : بالقتل . والإثخان في القوم : أن يكثر فيهم القتلى والجرحى ، والمعنى : فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر . و : { مناً } و : { فداء } مصدران منصوبان بفعلين مضمرين . وقرأ جمهور الناس : «فداء » . وقرأ شبل عن ابن كثير : «فدى » مقصوراً .
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه : القتل ، أو الاسترقاق ، أو ضرب الجزية ، أو الفداء ، أو المن . ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك .
وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه : حتى تذهب وتزول أثقالها . والأوزار : الأثقال فيها والآلات لها ، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
وأعددت للحرب أوزارها . . . رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا{[10353]}
وقال الثعلبي : وقيل الأوزار في هذه الآية : الآثام ، جمع وزر ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين .
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها { تضع الحرب أوزارها } ، فقال قتادة : حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها . وقال حذاق أهل النظر : حتى تغلبوهم وتقتلوهم .
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد : إنك تفعله دائماً .
وقوله تعالى : { ذلك } تقديره : الأمر ذلك . ثم قال : { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد ، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .
وقرأ جمهور الناس : «قاتلوا » وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه : «قَتَلوا » بفتح القاف والتاء . وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش : «قُتِلوا » بضم القاف وكسر التاء . وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء : «قُتِّلوا » بضم القاف وكسر التاء وشدها ، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى .
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أوزارها } .
لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله : { حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاق } . وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يُثْخِن في الأرض } [ الأنفال : 67 ] الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقرراً يومئذٍ ، وتقدم في سورة الأنفال .
والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم .
والمقصود : تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله ، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين . وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التّعليل من قوله : { حتى تضع الحرب أوزارها } .
و ( إذ ) ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط ، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله : { فضَرْب الرقاب } .
واللقاء في قوله : { فإذا لقِيتم الذين كفروا } : المقابلة ، وهو إطلاق شهير للقاء ، يقال : يوم اللقاء ، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب ، ويقال : إن لقيت فلاناً لقيت منه أسداً ، وقال النابغة :
تجنب بني حُنّ فإن لقاءهم *** كريهٌ وإن لم تلْق إلا بصائر
فليس المعنى : إذا لقيتم الكافرين في الطريق ، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل { لقيتم } . والمعنى : فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضّدتم شوكتهم ، فآسروا منهم أسرى .
وضرب الرقاب : كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام ، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض .
والضرب هنا بمعنى : القطع بالسيف ، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنّه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجِهَ عدوه وجهاً لوجه . والمعنى : فاقتلوهم سواء كان القتَل بضرب السيف ، أو طعن الرّماح ، أو رشق النبال ، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان .
والذين كفروا : هم المشركون لأنّ اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر ، نحو : الكافرين ، والكفار ، والذين كفروا ، هو الشرك . و { حتى } ابتدائية . ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع .
والإثخان : الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصُلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة ، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها .
وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل ، وكلا المعنيين في هذه الآية ، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المنّ والفداءِ غيرُ مقيّد .
وإذا فسّر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فأسروا حينئذٍ ، أي أبقوا الأسرى ، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر . وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله : { حتى يُثخن في الأرض } .
وانتصب { ضرب الرقاب } على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فِعله ثم أضيف إلى مفعوله ، والتقدير : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فلما حذف الفعل اختصاراً قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية . والشَدّ : قوة الربط ، وقوة الإمساك .
والوثاق بفتح الواو : الشيء الذي يوثق به ، ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به . وهو هنا كناية عن الأسر لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير . والمعنى : فاقتلوهم ، فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم .
وتعريف { الرقاب } و { الوثاق } يجوز أن يكون للعهد الذهني ، ويجوز أن يكون عوضاً عن المضاف إليه ، أي فضربَ رقابِهم وشُدُّوا وثاقهم .
والمنُّ : الإنعام . والمراد به : إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق منٌّ عليه إذ لم يُقتل ، والفداء : بكسر الفاء ممدوداً تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدّو . وقدم المن على الفداء ترجيحاً له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بغضه .
وانتصب { منّا } و { فداء } على المفعولية المطلقة بدلاً من عامليهما ، والتقدير : إما تمّنون وإما تُفدون .
وقوله { بعْدُ } أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء . وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هوازن . وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ ، وهذا رأي جمهور أيمة الفقه وأهل النظر . فقوله : { الذين كفروا } عام في كل كافر ، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حَربهم ويشمل من حارَب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار . وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده ، لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون ، لأن أوقات القتال مبينة في سورة براءة . ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] .
ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } في سورة الأنفال ( 67 ) . واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحدُ قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي ، ومِن السلف عبدُ الله بن عمر ، وعطاءُ ، وسعيدُ بن جبير : أن هذه الآية غير منسوخة ، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء ، وأمير الجيش مخيّر في ذلك .
ويشبه أن يكون أصحاب هذا القول يرون أن مورد الآية الإذنُ في المنّ أو الفداء فهي ناسخة أو مُنهية لحكم قوله تعالى : ما كانَ لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله : { لمسَّكُم فيما أخذتم عذاب عظيم } في سورة الأنفال ( 67 ، 68 ) .
وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة ، وأوقات المحاربة ، فلذلك لم يقل هؤلاء بحَظْر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء ، ولم يذكر معهما القتل . وقد ثبت في « الصحيح » ثبوتاً مستفيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل من أسرى بدر النضر بنَ الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية ، وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة ، وقتل بعد أحد أبا عزّة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر . وأيضاً لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق ، وهو الأصل في الأسرى ، وهو يدخل في المنّ إذا اعتبر المن شاملاً لترك القتل ، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع . وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك : أنَّ المنّ من العتق .
وقال الحسن وعطاء : التخيير بين المنّ والفداء فقط دون قتل الأسير ، فقتل الأسير يكون محظوراً . وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب إليه الحسن وعطاء . وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] . وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي وابن جريج ، ورواه العَوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة : لا بأس أن يُفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين . وروى الجصّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف .
والغاية المستفادة من { حتى } في قوله : { حتى تضع الحرب أوزارها } للتعليل لا للتقييد ، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، أي ليكفّ المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال . والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهِن العدوَّ فيتركوا حربكم ، فلا مفهوم لهذه الغاية ، فالتعليل متصل بقوله : { فضرب الرقاب } وما بينهما اعتراض . والتقدير : فضرب الرقاب ، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، فيكون وارداً مورد التعليم والموعظة ، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء .
والأوزار : الأثقال ، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمّال أو المسافر أثقاله ، وهذا من مبتكرات القرآن . وأخذ منه عبد ربه السُلمى ، أو سُليم الحنفي قوله :
kفألقت عصاها واستقرّ بها النوَى *** كما قرّ عينا بالإياب المسافر
فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره .
{ ذلك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ ببعض } .
أعيد اسم الإشارة بعد قوله آنفاً : { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } [ محمد : 3 ] للنكتة التي تقدمت هنالك ، وهو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف . وتقدير المحذوف : الأمر ذلك ، والمشار إليه ما تقدم من قوله : { فضرب الرقاب } إلى هنا ، ويفيد اسم الإشارة تقرير الحكم ورسوخه في النفوس .
والجملة من اسم الإشارة والمحذوف معترضة و { لو يشاء الله لانتصر منهم } في موضع الحال من الضمير المرفوع المقدر في المصدر من قوله : { فضَرْبَ الرقاب } ، أي أمرتم بضرب رقابهم ، والحال أن الله لو شاء لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم ، ولكن الله ناط المسببات بأسبابها المعتادة وهي أن يبلو بعضكم ببعض .
وتعدية ( انتصر ) بحرف ( من ) مع أن حقه أن يعدّى بحرف ( على ) لتضمينه معنى : انتقم .
والاستدراك راجع إلى ما في معنى المشيئة من احتمال أن يكون الله ترك الانتقام منهم لسبب غير ما بعدَ الاستدراك .
والبَلْوْ حقيقته : الاختبار والتجربة ، وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار ، وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس .
{ والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم }
هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله : { فضرب الرقابِ } إلى قوله : { وإما فداء } ، فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذُكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم .
وجملة { والذين قاتلوا في سبيل الله } الخ عطف على جملة { فإذا لَقِيتُمُ الذين كفروا فضرب الرقاب } الآية فإنه لما أمرهم بقتال المشركين أعقب الأمر بوعد الجزاء على فعله .
وذكر { الذين قاتلوا في سبيل الله } إظهار في مقام الإضمار إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال : فلن يُضل الله أعمالكم ، وهكذا بأسلوب الخطاب ، فعدل عن مقتضى الظاهر من الإضمار إلى الإظهار ليكون في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إفادة تقوّي الخبر ، وليكون ذريعة إلى الإتيان بالموصول للتنويه بصلته ، وللإيماء إلى وجه بناء الخبر على الصلة بأن تلك الصلة هي علة ما ورد بعدها من الخبر .
فجملة { فلن يضل أعمالهم } خبر عن الموصول ، وقرنت بالفاء لإفادة السببية في ترتب ما بعد الفاء على صلة الموصول لأن الموصول كثيراً ما يشرب معنى الشرط فيقرن خبره بالفاء ، وبذلك تكون صيغة الماضي في فعل { قاتلوا } منصرفة إلى الاستقبال لأن ذلك مقتضى الشرط .