تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ} (2)

وقوله : { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } أي : لست ، ولله الحمد ، بمجنون ، كما قد يقوله الجهلة من قومك ، المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين ، فنسبوك فيه إلى الجنون ،

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ} (2)

وقوله : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } هو جواب القسم و { ما } هنا عاملة لها اسم وخبر ، وكذلك هي حيث دخلت الباء في الخبر ، وقوله : { بنعمة ربك } اعتراض ، كما يقول الإنسان : أنت بحمد الله فاضل .

وسبب هذه الآية ، أن قريشاً رمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ، وهو ستر العقول ، بمعنى أن كلامه خطأ ككلام المجنون ، فنفى الله تعالى ذلك عنه وأخبره بأن له الأجر ، وأنه على الخلق العظيم ، تشريفاً له ومدحاً .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ما أنت} يا محمد {بنعمة ربك} يعني برحمة ربك {بمجنون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما أنت بنعمة ربك بمجنون، مكذّبا بذلك مشركي قريش الذين قالوا له: إنك مجنون...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فموضع القسم هذا: أقسم بما ذكر: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}

يحتمل أوجها: أحدها:

أن نعمة ربك حفظتك من الجنون؛ نفى عنه الجنون بقوله: {ما أنت} بما أنعم الله عليك {بمجنون} وهذا كما يقال: ما أنت يا محمد بحمد الله بمجنون، يراد به نفي الجنون.

والثاني: أنك لست ممن خدعته النعمة، واغترّ بها حتى شغلته عن العمل بمآله وما عليه. والمجنون بالنعمة هو الذي غرته النعم، وألهته عن التزود للمعاد. والثالث: ما أنت بغافل عن نعمة ربك، بل تذكرها، وتشكر الله عليها. والمجنون من غفل عن النعمة، وأعرض عن شكرها.

والرابع: أن الكفرة كانوا ينسبونه إلى الجنون: إما لما كان يغشاه بثقل الوحي، فكانوا ينسبونه بهذا إلى الجنون، وإما لما رأوا أنه خاطر بنفسه وروحه حين خالف أهل الأرض، وفيها الجبابرة والفراعنة، وانتصب لمعاداتهم. ومن قام بخلاف من لا طاقة له معه، وانتصب لمعاداته، فذلك منه في الشاهد جنون. فأجاب الله تعالى للفريقين جميعا: أما الأول فبقوله: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} [سبإ: 46] أي كيف تنسبونه إلى الجنون، وعند الإفاقة من تلك الغشية يأتيكم بحكمة وموعظة، يعجز حكماء الجن والإنس عن إتيان مثلها، وليس لك من علم المجانين ولا مما يمكن تحصيله في حال الجنون، لأن المجنون إذا أفاق من غشيته تكلم بكلام لا يعبأ بمثله ولا يكترث.

وأجاب لمن كان نسبه على الجنون لما رأوه خاطر بروحه ونفسه بقوله: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبإ: 46] فأخبر أن الذي حمله على المخاطرة بروحه وجسده، هو أنه مأمور بالتبليغ والنذارة؛ فهو يقوم بما أمر، وإن أدى ذلك إلى إتلاف النفس. ثم بحمد الله لم يتهيأ للفراعنة أن يقتلوه، ولا تمكنوا من المكر به، بل أظفره الله تعالى عليهم حتى قتلهم، ورد كيدهم في نحورهم، فصار الوجه الذي استدلوا به على جنونه آية رسالته ودلالة نبوته، والله الهادي...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} يعني أنّك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله عليك بالنبوّة.

وقيل: بعصمة ربّك...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والجنون: غمور العقل بستره عن الإدراك به بما يخرج عن حكم الصحيح، وأصله الستر من قوله (جن عليه الليل) إذا ستره.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ما أوجب لصدره من الوحشة من قول الأعداء عنه: إنه مجنون، أزاله عنه بنفيه، ومحقَّقاً ذلك بالقَسَم عليه... وهذه سُنَّةُ الله تعالى مع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فما يقوله الأعداءُ فيه يردُّه -سبحانه- عليهم بخطابه وعنه ينفيه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى؛ استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً، وأنه من إنعام الله عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوّة بمنزلة.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله: {بنعمة ربك} يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة، فوجودها ينافي حصول الجنون، فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له: إنه مجنون...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان المخاطب بهذا صلى الله عليه وسلم قد عاشر المرسل إليهم دهراً طويلاً وزمناً مديداً، أربعين سنة وهو أعلاهم قدراً وأطهرهم خلائق وأمتنهم عقلاً وأحكمهم رأياً وأرأفهم وأرفعهم عن شوائب الأدناس همة وأزكاهم نفساً، بحيث إنه لا يدعى بينهم إلا بالأمين ولم يتجدد له شيء يستحق به أن يصفوه بسببه بالجنون، الذي ينشأ عنه الضلال عن المقاصد المذكور آخر الملك في قوله: (فستعلمون من هو في ضلال مبين} [الملك: 29] إلا النعمة التي ما نال أحد قط مثلها في دهر من الدهور ولا عصر من الأعصار، قال مجيباً هذا القسم العظيم راداً عليهم بأجلى ما يكون وأدله على المراد تأنيساً له صلى الله عليه وسلم مما أوجب افتراؤهم عليه له من الوحشة وشرحاً لصدره وتهدئة لسره: {ما أنت} أي يا أعلى المتأهلين لخطابنا {بنعمة} أي بسبب إنعام {ربك} المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن، الذي هو جامع لكل علم وحكمة، وأكد النفي زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم فقال: {بمجنون} أي بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون، ومعناه فضلاً عن الضلال الذي ردد في آخر تلك بينك وبينهم فيه سلوكاً لسبيل الإنصاف، لينظروا في تلك بالأدلة فيعلموا ضلالهم وهدايتك بالدليل القطعي بالنظر في الآثار المظهرة لذلك غاية الإظهار، فنفى عنه صلى الله عليه وسلم الشقاوة التي سببها فساد العقل فثبتت السعادة التي سببها صلاح العقل ونعمة الرب له...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فيثبت في هذه الآية القصيرة وينفي..

يثبت نعمة الله على نبيه، في تعبير يوحي بالقربى والمودة: حين يضيفه سبحانه إلى ذاته: (ربك). وينفي تلك الصفة المفتراة التي لا تجتمع مع نعمة الله، على عبد نسبه إليه وقربه واصطفاه.. وإن العجب ليأخذ كل دارس لسيرة الرسول [صلى الله عليه وسلم] في قومه، من قولتهم هذه عنه، وهم الذين علموا منه رجاحة العقل حتى حكموه بينهم في رفع الحجر الأسود قبل النبوة بأعوام كثيرة. وهم الذين لقبوه بالأمين، وظلوا يستودعونه أماناتهم حتى يوم هجرته، بعد عدائهم العنيف له، فقد ثبت أن عليا -كرم الله وجهه- تخلف عن رسول الله أياما في مكة، ليرد إليهم ودائعهم التي كانت عنده؛ حتى وهم يحادونه ويعادونه ذلك العداء العنيف. وهم الذين لم يعرفوا عليه كذبة واحدة قبل البعثة. فلما سأل هرقل أبا سفيان عنه: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل نبوته؟ قال أبو سفيان -وهو عدوه قبل إسلامه- لا، فقال هرقل: ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله!

إن الإنسان ليأخذه العجب أن يبلغ الغيظ بالناس إلى الحد الذي يدفع مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القولة وغيرها عن هذا الإنسان الرفيع الكريم، المشهور بينهم برجاحة العقل وبالخلق القويم. ولكن الحقد يعمي ويصم، والغرض يقذف بالفرية دون تحرج! وقائلها يعرف قبل كل أحد، أنه كذاب أثيم!

(ما أنت بنعمة ربك بمجنون).. هكذا في عطف وفي إيناس وفي تكريم، ردا على ذلك الحقد الكافر، وهذا الافتراء الذميم...

الشعراوي- 1419هـ.

والنعمة هنا هي ما أنزله الله على رسول الله من الكتاب والحكمة، فهي المنهج الحق، وقد هداك الله إلى هذا المنهج القويم، فلقد كنت ضالا تبحث عن الهداية، فجاءتك النعمة الكاملة من الله.

ومن هداه الله إلى النعمة الكبرى لا يكون مجنونا أبدا، فالمجنون يتصرف بلا منطق، يضحك بلا سبب ويبكي بلا سبب، ويضرب الناس بلا سبب، فهل رأيتم محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل شيئا من هذا؟

والنعمة التي أنزلها الله على رسوله ليست بسحر كما قال بعضكم لأنه يملك من البيان ما يملكون وفوق ما يملكون ويحسنون، ولا يفعل رسول الله معهم ما يجعلهم يؤمنون على الرغم منهم.

وليس القرآن كذلك بكلام كهنة، لأن رسول الله نشأ بينهم ويعلمون أنه الصادق الأمين الذي لم يتلق علما من أحد، فضلا عن أن كلام الكهان له سمت خاص وسجع معروف، والقرآن ليس كذلك.

ويعلمون أنه كلام نطق به رجل عاقل، فكلام المجنون لا ينسجم مع بعضه، فهل أحد من المشركين أخذ على رسول الله أي سلوك يمكن أن يشير إلى عدم ترتيب الأفعال؟ لا.

وإذا كان المجنون فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلات، فكيف يقولون ذلك عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهو قد عاش بينهم، ولم يكن قط فاقدا لميزان الاختيار بين البديلات، بل كانوا يعتبرونه الصادق الأمين.