تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (9)

وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : اقصدوا واعمدوا{[28836]} واهتموا في مَسيركم إليها ، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع ، وإنما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ الإسراء : 19 ] وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها : " فامضوا إلى ذكر الله " . فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه ، لما أخرجاه في الصحيحين ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ، وعليكم السكينة والوقار ، ولا تُسرِعوا ، فما أدركتم فصَلُّوا ، وما فاتكم فأتموا " . لفظ البخاري{[28837]}

وعن أبي قتادة قال : بينما نحن نُصَلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جَلَبة رجال ، فلما صلى قال : " ما شأنكم ؟ " . قالوا : استعجلنا إلى الصلاة . قال : " فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم بالسكينة{[28838]} فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " . أخرجاه{[28839]}

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، ولكن ائتوها تمشون ، وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .

رواه الترمذي ، من حديث عبد الرزاق كذلك{[28840]} وأخرجه من طريق يزيد بن زُرَيع ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، بمثله{[28841]}

قال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نُهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع .

وقال قتادة في قوله : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } يعني : أن تسعى بقلبك وعملك ، وهو المشي إليها ، وكان يتأولُ قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } [ الصافات : 102 ] أي : المشي معه . روي عن محمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، وغيرهما نحو ذلك .

ويستحَب لمن جاء الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء أحدُكم الجمعةَ فَلْيغتسل " {[28842]}

ولهما عن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " غُسلُ يوم الجمعة واجب على كل مُحتَلِم " {[28843]}

وعن أبي هُرَيرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده " . رواه مسلم{[28844]}

وعن جابر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم ، وهو يوم الجمعة " . رواه أحمد ، والنسائي ، وابن حبان{[28845]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من غَسَّل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يَلْغُ كان له بكل خطوة أجر سنة ، صيامها وقيامها " .

وهذا الحديث له طرق وألفاظ ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحَسَّنَهُ الترمذي{[28846]}

وعن أبي هُرَيرة ، رضي الله عنه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة غُسلَ الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنه ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " أخرجاه{[28847]}

ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ، ويتطيب ويتسوك ، ويتنظف ويتطهر . وفي حديث أبي سعيد المتقدم : " غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، والسواكُ ، وأن يَمَس من طيب أهله " .

وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، عن عمران بن أبي يحيى ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبي أيوب الأنصاري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من اغتسل يوم الجمعة ومَس من طيب أهله - إن كان عنده - ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع{[28848]} - إن بدا له - ولم يُؤذ أحدا ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي ، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى " {[28849]}

وفي سنن أبي داود وابن ماجة ، عن عبد الله بن سلام ، رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مِهْنَته " {[28850]} وعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة ، فرأى عليهم ثياب النّمار ، فقال : " ما على أحدكم إن وجد سَعَة أن يتخذ ثوبين لجمعته ، سوى ثوبي مهنته " . رواه ابن ماجة{[28851]}

وقوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ } المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه ، فهذا هو المراد ، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، فإنما كان هذا لكثرة الناس ، كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال : حدثنا آدم - هو ابن أبي إياس - حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أولهُ إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان [ بعد زمن ]{[28852]} وكثر الناس ، زاد النداء الثانيٍّ{[28853]} على الزوراء {[28854]} يعني : يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء ، وكانت أرفع دار بالمدينة ، بقرب المسجد .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا محمد بن راشد المكحولى ، عن مكحول : أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الإمام ، ثم تقام الصلاة ، وذلك النداء الذي يحرم عنده البيع الشراء{[28855]} إذا نودي به ، فأمر عثمان ، رضي الله عنه ، أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس .

وإنما يؤمر بحضور الجمعة [ الرجال ]{[28856]} الأحرار دون النساء والعبيد والصبيان ، ويعذر المسافر والمريض ، وقَيّم المريض ، وما أشبه ذلك من الأعذار ، كما هو مقرر في كتب الفروع .

وقوله : { وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي : اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة : ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني . واختلفوا : هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا ؟ على قولين ، وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه ، والله أعلم .

وقوله : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خيرٌ لكم ، أي : في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون .


[28836]:- (3) في أ: "واعبدوا".
[28837]:- (4) صحيح مسلم برقم (856).
[28838]:- (5) في م: "فعليكم السكينة والوقار".
[28839]:- (6) صحيح البخاري برقم (636) وصحيح مسلم برقم (602).
[28840]:- (7) سنن الترمذي برقم (328).
[28841]:- (8) سنن الترمذي برقم (327).
[28842]:- (9) صحيح البخاري برقم (877) وصحيح مسلم برقم (844).
[28843]:- (1) صحيح البخاري برقم (879) وصحيح مسلم برقم (846).
[28844]:- (2) صحيح البخاري برقم (897) وصحيح مسلم برقم (849).
[28845]:- (3) المسند (3/304) وسنن النسائي (3/92) وصحيح ابن حبان برقم (558) "موارد".
[28846]:- (4) المسند (4/104) وسنن أبي داود برقم (345) وسنن الترمذي برقم (496) وسنن النسائي (3/95) وسنن ابن ماجة برقم (1087).
[28847]:- (5) صحيح البخاري برقم (881) وصحيح مسلم برقم (850).
[28848]:- (6) في م، أ: "فركع".
[28849]:- (7) المسند (5/420).
[28850]:- (8) سنن أبي داود برقم (1078) وسنن ابن ماجة برقم (1095).
[28851]:- (1) سنن ابن ماجة برقم (1096) وقال البوصيري في الزوائد (1/365): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
[28852]:- (2) ما بين المعقوفين غير ثابت في الصحيح. مستفادًا من هامش ط. الشعب.
[28853]:- (3) في الصحيح: "النداء الثالث" ومثله في سنن ابن ماجة، كتاب الإقامة، باب ما جاء في الأذان يوم الجمعة، حديث رقم (1135) 1/359 مستفادًا من هامش ط. الشعب.
[28854]:- (4) صحيح البخاري برقم (912).
[28855]:- (5) في م: "الشراء والبيع".
[28856]:- (6) زيادة من أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (9)

«النداء بالجمعة » هو في ناحية من المسجد ، وكان على الجدار في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال السائب بن يزيد{[11093]} : كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد على باب المسجد ، وفي مصحف أبي داود : كان بين يديه وهو على منبر أذان ، وهو الذي استعمل بنو أمية ، وبقي بقرطبة إلى الآن ، ثم زاد عثمان النداء على الزوراء ليسمع الناس ، فقوم عبروا عن زيادة عثمان بالثاني ، كأنهم لم يعتدوا الذي كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوم عبروا عنه بالثالث ، وقرأ الأعمش وابن الزبير : «الجمْعة » بإسكان الميم وهي لغة ، والمأمور بالسعي هو المؤمن الصحيح البالغ الحر الذكر ، ولا جمعة على مسافر في طاعة ، فإن حضرها أحسن ، وأجزأته .

واختلف الناس في الحد الذي يلزم منه السعي ، فقال مالك : ثلاثة أميال .

قال القاضي أبو محمد : من منزل الساعي إلى المنادي ، وقال فريق : من منزل الساعي إلى أول المدينة التي فيها النداء ، وقال أصحاب الرأي : يلزم أهل المدينة كلها السعي من سمع النداء ومن لم يسمع ، وإن كانت أقطارها فوق ثلاثة أميال . قال أبو حنيفة : ولا من منزله خارج المدينة كزرارة من الكوفة ، وإنما بينهما مجرى نهر ، ولا يجوز لهم إقامتها لأن من شروطها الجامع والسلطان القاهر ، والسوق القائمة ، وقال بعض أهل العلم : يلزم السعي من خمسة أميال ، وقال الزهري : من ستة أميال ، وقال أيضاً : من أربعة أميال وقاله ابن المنكدر ، وقال ابن عمر وابن المسيب وابن حنبل : إنما يلزم السعي من سمع النداء ، وفي هذا نظر . والسعي في الآية : ليس الإسراع في المشي كالسعي بين الصفا والمروة ، وإنما هو بمعنى قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[11094]} [ النجم : 39 ] ، فالقيام والوضوء ولبس الثوب والمشي سعي كله إلى ذكر الله تعالى ، قال الحسن وقتادة ومالك وغيرهم : إنما تؤتى الصلاة بالسكينة ، فالسعي هو بالنية والإرادة ، والعمل{[11095]} و " الذكر " هو وعظ الخطبة قاله ابن المسيب ، ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الملائكة على باب المسجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول إذا خرج الإمام طويت الصحف وجلست الملائكة يستمعون الذكر » ، والخطبة عند جمهور العلماء شرط في انعقاد الجمعة ، وقال الحسن : وهي مستحبة ، وقرأ عمر بن الخطاب ، وعلي وأبي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير ، وجماعة من التابعين : «فامضوا إلى ذكر الله »{[11096]} ، وقال ابن مسعود : لو قرأت «فاسعوا » لأسرعت حتى يقع ردائي .

واختلف الناس في : { البيع } في الوقت المنهي عنه إذا وقع ما الحكم فيه بعد إجماعهم على وجوب امتناعه بدءاً ، فقال الشافعي : يمضي ، وقال مرة : يفسخ ما لم يفت فإن فات صح بالقيمة ، واختلف في وقت التقويم ، فقيل : وقت القبض ، وقيل : وقت الحكم ، وقوله تعالى : { ذلكم } إشارة إلى السعي وترك البيع .


[11093]:هو السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، ويعرف بابن أخت النمر، صحابي صغير، له أحاديث قليلة، وحُج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين، وولاه عمر سوق المدينة، مات سنة إحدى وتسعين، وقيل: قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة.(تقريب التهذيب).
[11094]:الآية (39) من سورة (النجم)، ومثل هذه الآية قوله تعالى:{ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن}، وقوله تعالى:{إن سعيكم لشتى} فالسعي في هذه الآيات هو العمل، ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سُلمى: سعى بعدهم قوم لكي يدركوهموا فلم يفلحوا ولم يلاموا ولم يألوا فمعنى "سعى" في كل هذه الأمثلة: عمل.
[11095]:وقيل: إن معنى "السعي" هنا هو القصد، قال الحسن: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية، وقيل: إن السعي في الآية هو سعي على الأقدام، وهو الدرجة العالية، فهو فضل وليس بشرط، أما السعي بمعنى الجري والاشتداد فيه فهو غير مراد.
[11096]:هذه القراءة تبين أن المراد مجرد العمل والمضي فيه لا أنه السعي بالجري والاشتداد فيه.