تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (4)

{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي : كانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، إذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم{[28871]} لبلاغتهم ، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخَور والهلع والجزع والجبن ؛ ولهذا قال : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي : كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف ، يعتقدون ، لجبنهم ، أنه نازل بهم ، كما قال تعالى : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [ الأحزاب : 19 ] فهم جَهَامات وصور بلا معاني . ولهذا قال : { هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يُصرَفون عن الهدى إلى الضلال .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا عبد الملك بن قُدَامة الجُمَحي ، عن إسحاق بن بكر{[28872]} بن أبي الفرات ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري . عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ، وطعامهم نُهبَة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هُجْرا ولا يأتون الصلاة إلا دُبْرا ، مستكبرين لا يألَفون ولا يُؤلَفون ، خُشُبٌ بالليل ، صُخُب بالنهار " . وقال يزيد مَرةً : سُخُبٌ بالنهار{[28873]}


[28871]:- (1) في م: "إلى قلوبهم".
[28872]:- (2) في أ: "بكير".
[28873]:- (3) المسند (2/293).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (4)

وقوله تعالى : { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، وإن يقولوا تسمع لقولهم } توبيخ لهم لأنهم كانوا رجالاً أجمل شيء وأفصحه ، فكان نظرهم يروق وقولهم يخيب ، ولكن الله تعالى جعلهم «كالخشب المسندة » ، وإنما هي أجرام لا عقول لها ، معتمدة على غيرها ، لا تثبت بأنفسها ، ومنه قولهم : تساند القوم إذا اصطفوا وتقابلوا للقتال ، وقد يحتمل أن يشبه اصطفافهم في الأندية باصطفاف الخشب المسندة وخلوهم من الأفهام النافعة خلو الخشب من ذلك ، وقال رجل لابن سيرين : رأيتني في النوم محتضناً خشبة ، فقال ابن سيرين : أظنك من أهل هذه الآية وتلا : { كأنهم خشب مسندة } . وقرأ عكرمة وعطية : «يُسمع » مضمومة بالياء ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وعاصم : «خُشُب » بضم الخاء والشين ، وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي : «خُشْب » بضم الخاء وإسكان الشين وهي قراءة البراء بن عازب واختيار ابن عبيد .

وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : «خَشَب » بفتح الخاء والشين ، وذلك كله جمع خشبة بفتح الخاء والشين ، فالقراءتان أولاً كما تقول : بُدْنة وبَدْن وبُدْن : قاله سيبويه ، والأخيرة على الباب في تمرة وتمر .

وكان عبد الله بن أبي من أبهى المنافقين وأطولهم ، ويدل على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه ، وقد تقدم في سورة البقرة تحرير أمر المنافقين وكيف سترهم الإسلام .

وقوله تعالى : { يحسبون كل صيحة عليهم } ، فضح أيضاً لما كانوا يسرونه من الخوف ، وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بقتلهم ، وقال مقاتل : فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة أو صياحاً بأي وجه كان أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك . ويكون في غير شأنهم ، وجرى هذا اللفظ مثلاً في الخائف ، ونحو قول الشاعر [ بشار بن برد العقيلي ] : [ الوافر ]

يروّعه السرار بكل أرض . . . مخافة أن يكون به السرار{[11108]}

وقول جرير : [ الكامل ]

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم . . . خيلاً تكر عليهمُ ورجالا{[11109]}

ثم أخبر تعالى بأنهم { العدو } وحذر منهم ، و { العدو } يقع للواحد والجمع ، وقوله تعالى : { قاتلهم الله } دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة ، وتمني الشر لهم ، وقوله تعالى : { أنى يؤفكون } معناه : كيف يصرفون ، ويحتمل أن يكون { أنى } استفهاماً ، كأنه قال كيف يصرفون أو لأي سبب لا يرون أنفسهم ، ويحتمل أن يكون : { أنى } ظرفاً ل { قاتلهم } كأنه قال { قاتلهم الله } ، كيف انصرفوا أو صرفوا ، فلا يكون في القول استفهام على هذا .


[11108]:السرار: المسارة والمناجاة، وفي حديث عمر أنه كان يحدثه عليه الصلاة والسلام كأخي السرار، لخفض صوته، ويروعه: يفزعه ويُخيفه، يقول: إنه يخاف من المناجاة وخفي الأصوات خشية أن يكون هذا السرار خاصا به. ولم أقف على قائل هذا البيت.
[11109]:لم أجد هذا البيت في ديوان جرير، وقد نسبه الزمخشري والقرطبي إلى الأخطل، وذكر صاحب البحر المحيط أن ابن عطية نسبه إلى جرير، وأن الزمخشري نسبه للأخطل.وحسب الشيء يحسبه: ظنه، وكرّ يكرّ: رجع إلى الهجوم، وهو خلاف الفر، يصور خوفه الذي يوقع في ظنه أن كل شيء عدو يهاجمهم. ورجالا في البيت معطوفة على "خيلا". هذا والمعنى المقصود في البيتين كثير مطروق في الشعر العربي، وقد غالى المتنبي فيه حين قال: وضاقت الأرض حتى صار هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا.