فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم{[13367]} لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ، ولا بما جاءوا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله ودينه ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد ، صلوات الله عليه ، لأن جميع الأنبياء [ الأقدمين ]{[13368]} بشروا به ، وأمروا باتباعه ، فلما جاء وكفروا{[13369]} به ، وهو أشرف الرسل ، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله ، بل لحظوظهم وأهوائهم ، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ؛ ولهذا قال : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وهذه الآية الكريمة [ نزلت ]{[13370]} أول الأمر بقتال أهل الكتاب ، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما استقامت{[13371]} جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وكان ذلك في سنة تسع ؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فَأَوْعَبوا معه ، واجتمع من المقاتلة{[13372]} نحو [ من ]{[13373]} ثلاثين ألفا ، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جَدْب ، ووقت قَيْظ وحر ، وخرج ، عليه السلام ، يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، فنزل بها وأقام على مائها{[13374]} قريبًا من عشرين يومًا ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله .
وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، أو من أشباههم كالمجوس لما{[13375]} صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر{[13376]} وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد - في المشهور عنه - وقال أبو حنيفة ، رحمه الله : بل تؤخذ من جميع الأعاجم ، سواء كانوا{[13377]} من أهل الكتاب أو من المشركين ، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب .
وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ ، ومجوسي ، ووثني ، وغير ذلك ، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا ، والله أعلم .
وقوله : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي : إن لم يسلموا ، { عَنْ يَدٍ } أي : عن قهر لهم وغلبة ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : ذليلون حقيرون مهانون . فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين ، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء ، كما جاء في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " {[13378]}
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ ، من رواية{[13379]} عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين صالح نصارى من أهل الشام :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا{[13380]} وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة ، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان خطط{[13381]} المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا ، ولا نكتم غشًا للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركا ، ولا ندعو إليه أحدًا ؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نوقر المسلمين ، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم ، في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكُنَاهم ، ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نحمله معنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رءوسنا ، وأن نلزم زِينا حيثما كنا ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وألا نظهر الصليب على كنائسنا ، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا{[13382]} في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نجاورهم بموتانا ، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ، ولا نطلع عليهم في منازلهم .
قال : فلما أتيت عمر بالكتاب ، زاد فيه : ولا نضرب أحدًا من المسلمين ، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .
هذه الآيات تضمنت قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى حتى يقتلوا أو يؤدوا الجزية ، قال مجاهد : وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلة الله عليه وسلم في غزو الروم ومشى نحو تبوك ، ومن جعل أهل الكتاب مشركين في هذه الآية عنده ناسخة بما فيها من أخذ الجزية لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين }{[5591]} ونفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث تركوا شرع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله عز وجل من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذ تلقوها من غير طريقها ، وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا : عزيز ابن الله والله ثالث ثلاثة وغير ذلك ، ولهم أيضاً في البعث آراء كشراء منازل الجنة من الرهبان ، وقول اليهود في النار نكون فيها أياماً بعد ونحو ذلك ، وأما قوله { لا يحرمون ما حرم الله ورسوله } فبين ، ونص على مخالفتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأما قوله { ولا يدينون } فمعناه ولا يطيعون ويمتثلون ، ومنه قول عائشة : ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين{[5592]} ، والدين في اللغة لفظة مشتركة وهي هاهنا الشريعة ، وهي مثل قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام }{[5593]} ، وأما قوله { من الذين أوتوا الكتاب } فنص في بني إسرائيل وفي الروم وأجمع الناس في ذلك ، وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم .
قال القاضي أبو محمد : وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب »{[5594]} ، فقال كثير من العلماء معنى ذلك في أخذ الجزية منهم ، وليسوا أهل الكتاب ، فعلى هذا لم يتعد التشبيه إلى ذبائحهم ومناكحهم ، وهذا هو الذي ذكره ابن حبيب في الواضحة ، وقال بعض العلماء : معناه سنوا بهم سنة أهل الكتاب إذ هم أهل كتاب ، فعلى هذا يتجه التشبيه في ذبائحهم وغيرها ، والأول هو قول مالك وجمهور أصحابه ، وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، وأما مجوس العرب فقال ابن وهب : لا تقبل منهم جزية ولا بد من القتال أو الإسلام ، وقال سحنون وابن القاسم وأشهب : تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأمم كلها ، وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستثن الله فيهم جزية ولا بقي منهم على الأرض بشر ، قال ابن حبيب وإنما لهم القتال أو الإسلام وهو قول ابن حنيفة .
قال القاضي أبو محمد : ويوجد لابن القاسم أن الجزية تؤخذ منهم ، وذلك أيضاً في التفريع لابن الجلاب وهو احتمال لا نص ، وأما أهل الكتاب من العرب فذهب مالك رحمه الله إلى أن الجزية تؤخذ منهم ، وأشار إلى المنع من ذلك أبو حنيفة ، وأما السامرة والصابئون فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبائحهم ، وقالت فرقة لا تؤكل ذبائحهم ، وعلى هذا لا تؤخذ الجزية منهم ، ومنع بعضهم الذبيحة مع إباحة أخذ الجزية منهم وأما عبدة الأوثان والنيران وغير ذلك فجمهور العلماء على قبول الجزية منهم ، وهو قول مالك في المدونة ، وقال الشافعي وأبو ثور : لا تؤخذ الجزية إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط ومذهب مالك رحمه الله أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ، ولا تضرب على الصبيان والنساء والمجانين ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين ، قال مالك في الواضحة : وأما إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا بعد ذلك فلا تسقط عنهم ، وأما رهبان الكنائس فتضرب عليهم ، واختلف في الشيخ الفاني ، ومن راعى أن علتها الإذلال أمضاها في الجميع وقال النقاش{[5595]} : العقوبة الشرعية تكون في الأموال والأبدان فالجزية من عقوبات الأموال ، وأما قدرها فذهب رحمه الله وكثير من أهل العلم على ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهماً على أهل الفضة ، وفرض***
*** . رضي الله ضيافة وأرزاقاً وكسوة ، قال مالك في الواضحة ويحط ذلك عنهم اليوم لما
****** . عليهم من اللوازم ، فهذا أحد ما ذكر عن عمر وبه أخذ مالك ، قال سفيان الثوري :«رويت عن عمر ضرائب مختلفة » .
قال القاضي أبو محمد : وأظن ذلك بحسب اجتهاده رضي الله عنه في يسرهم وعسرهم ، وقال الشافعي وغيره : قدر الجزية دينار على الرأس ، ودليل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً بذلك{[5596]} وأخذه جزية اليمن كذلك أو قيمته معافر{[5597]} وهي ثياب ، وقال كثير من أهل العلم ليس لذلك في الشرع حد محدود وإنما ذلك إلى اجتهاد الإمام في كل وقت وبحسب قوم قوم ، وهذا كله في العنوة{[5598]} ، وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير ، واختلف في المذهب في العبد الذي يعتقه الذمي أو المسلم هل يلزمه جزية أم لا ؟ وقال ابن القاسم لا ينقص أحد من أربعة دنانير كان فقيراً أو غنياً ، وقال أصبغ : يحط الفقير بقدر ما يرى من حاله ، وقال ابن الماجشون : لا يؤخذ من الفقير شيء ، والجزية وزنها فعلة من جزى يجزي إذا كافى عن ما أسدى إليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالقعدة والجلسة .
ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ الكامل ]
يجزيك أو يثني عليك وإن من*** أثنى عليك يما فعلتَ كمن جزى{[5599]}
وقوله تعالى : { عن يد } يحتمل تأويلات ، منها أن يريد سوق الذمي لها بيده لا مع رسول ليكون في ذلك إذلال له ، ومنها أن يريد عن نعمة منكم قبلهم في قبولها منهم وتأمينهم ، واليد في اللغة النعمة والصنع الجميل ، ومنها أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر لا تبقى لهم معه راية ولا معقل ، و «اليد » في كلام العرب القوة ، يقال : فلان ذو يد ويقال ليس لي بكذا وكذا يد أي قوة ، ومنها أن يريد أن ينقذوها ولا يؤخروا بها كما تقول بعته يداً بيد ، ومنها أن يريد عن استسلام منهم وانقياد على نحو قولهم ألقى فلان بيده إذا عجز واستسلم ، وقوله { وهو صاغرون } لفظ يعم وجوهاً لا تنحصر لكثرتها ذكر منها عن عكرمة أن يكون قابضها جالساً والدافع من أهل الذمة قائم ، وهذا ونحوه داع إلى صغارهم .