تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

يقول تعالى : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جُعل في عنقه غل ، فجَمَع يديه مع عنقه تحت ذقنه ، فارتفع رأسُه ، فصار مقمَحا ؛ ولهذا قال : { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } والمقمح : هو الرافع رأسه ، كما قالت أم زَرْع في كلامها : " وأشرب فأتقمَّح " أي : أشرب فأروى ، وأرفع رأسي تهنيئا وتَرَوّيا . واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين ، وإن كانتا مرادتين ، كما قال الشاعر{[24665]} :

فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا *** أريد الخَيْرَ أيّهما يَليني

أالْخَيْرُ الذي أنَا أبْتَغيه *** أم الشَّرّ الذي لا يَأتَليني

فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر لَمّا دل السياق والكلام عليه ، {[24666]} وكذا هذا ، لما كان الغُلّ إنما يعرف فيما جَمَع اليدين مع العنق ، اكتفى بذكر العنق عن اليدين .

قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ } قال : هو كقول الله{[24667]} تعالى : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] يعني بذلك : أن أيديهم موثقة{[24668]} إلى أعناقهم ، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير .

وقال مجاهد : { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } قال : رافعو{[24669]} رؤوسهم ، وأيديهم موضوعة على أفواههم ، فهم مغلولون عن كل خير .


[24665]:- البيت في تفسير الطبري (22/98).
[24666]:- في ت : "لما دل عليه السياق".
[24667]:- في ت : "كقوله".
[24668]:- في ت : "موثوقة".
[24669]:- في ت، س : "رافعى".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر ، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم . { فهي إلى الأذقان } فالأغلال واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له . { فهم مقمحون } رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ فَهُم مُّقۡمَحُونَ} (8)

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } [ يس : 7 ] فإن انتفاء إيمانهم يشتمل على مَا تضمنته هذه الآية من جعل أغلال في أعناقهم حقيقة أو تمثيلاً .

والجعل : تكوين الشيء ، أي جعلنا حالهم كحال من في أعناقهم أغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ، فيجوز أن يكون تمثيلاً بأن شُبهت حالة إعراضهم عن التدبر في القرآن ودعوة الإِسلام والتأمل في حججه الواضحة بحال قوم جعلت في أعناقهم أغلال غليظة ترتفع إلى أذقانهم فيكونون كالمقمحين ، أي الرافعين رؤوسهم الغاضِّين أبصارهم لا يلتفتون يميناً ولا شِمالاً فلا ينظرون إلى شيء مما حولهم فتكون تمثيلية .

وذِكر { فهي إلى الأذقان } لتحقيق كون الأغلال ملزوزة إلى عظام الأذقان بحيث إذا أراد المغلول منهم الالتفات أو أن يطاطىء رأسه وجِعَه ذقنه فلازم السكون وهذه حالة تخييل هذه الأغلال وليس كل الأغلال مثل هذه الحالة .

وهذا التمثيل قابل لتوزيع أجزاء المركب التمثيلي إلى تشبيه كل جزء من الحالين بجزء من الحالة الأخرى بأن يشبه ما في نفوسهم من النفور عن الخير بالأَغلال ، ويشبه إعراضهم عن التأمل والإِنصاف بالإِقماح .

فالفاء في قوله : { فهي إلى الأذقان } عطف على جملة { جعلنا في أعناقهم أغلالاً } ، أي جعلنا أغلالاً ، أي فأبلغناها إلى الأذقان .

والجعل : هنا حقيقة وهو ما خلق في نفوسهم من خلق التكبر والمكابرة .

والأغلال : جمع غُلّ بضم الغين ، وهو حلقة عريضة من حديد كالقلادة ذات أضلاع من إحدى جهاتها وطرفين يقابلان أضلاعهما فيهما أثقاب متوازية تشد الحلقة من طرفيها على رقبة المغلول بعمود من حديد له رأس كالكرة الصغيرة يسقط ذلك العمُود في الأثقاب فإذا انتهى إلى رأسه الذي كالكرة استقرّ ليمنع الغُلّ من الانحلال والتفلّت ، وتقدم عند قوله تعالى : { وأولئك الأغلال في أعناقهم } في سورة الرعد ( 5 ) .

والفاء في قوله : فهم مقمحون } تفريع على جملة { فهي إلى الأذقان } .

والمقمَح : بصيغة اسم المفعول المجعول قامحاً ، أي رافعاً رأسه ناظراً إلى فوقه يقال : قمحه الغُلّ ، إذا جعل رأسه مرفوعاً وغضّ بصره ، فمدلوله مركب من شيئين . والأذقان : جمع ذَقَن بالتحريك ، وهو مجتمع اللحيين . وتقدم في الإِسراء .

ويجوز أن يكون قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } الخ وعيداً بما سيحلّ بهم يوم القيامة حين يساقون إلى جهنم في الأغلال كما أشار إليه قوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون } في سورة غافر ( 71 ، 72 ) ، فيكون فعل { جعلنا } مستقبلاً وعبر عنه بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه كقوله تعالى : { أتى أمر اللَّه } [ النحل : 1 ] ، أي سنجعل في أعناقهم أغلالاً .