فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم{[13367]} لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ، ولا بما جاءوا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله ودينه ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد ، صلوات الله عليه ، لأن جميع الأنبياء [ الأقدمين ]{[13368]} بشروا به ، وأمروا باتباعه ، فلما جاء وكفروا{[13369]} به ، وهو أشرف الرسل ، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله ، بل لحظوظهم وأهوائهم ، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ؛ ولهذا قال : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وهذه الآية الكريمة [ نزلت ]{[13370]} أول الأمر بقتال أهل الكتاب ، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما استقامت{[13371]} جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وكان ذلك في سنة تسع ؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فَأَوْعَبوا معه ، واجتمع من المقاتلة{[13372]} نحو [ من ]{[13373]} ثلاثين ألفا ، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جَدْب ، ووقت قَيْظ وحر ، وخرج ، عليه السلام ، يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، فنزل بها وأقام على مائها{[13374]} قريبًا من عشرين يومًا ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله .
وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، أو من أشباههم كالمجوس لما{[13375]} صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر{[13376]} وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد - في المشهور عنه - وقال أبو حنيفة ، رحمه الله : بل تؤخذ من جميع الأعاجم ، سواء كانوا{[13377]} من أهل الكتاب أو من المشركين ، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب .
وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ ، ومجوسي ، ووثني ، وغير ذلك ، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا ، والله أعلم .
وقوله : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي : إن لم يسلموا ، { عَنْ يَدٍ } أي : عن قهر لهم وغلبة ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : ذليلون حقيرون مهانون . فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين ، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء ، كما جاء في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " {[13378]}
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ ، من رواية{[13379]} عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين صالح نصارى من أهل الشام :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا{[13380]} وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة ، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان خطط{[13381]} المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا ، ولا نكتم غشًا للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركا ، ولا ندعو إليه أحدًا ؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نوقر المسلمين ، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم ، في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكُنَاهم ، ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نحمله معنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رءوسنا ، وأن نلزم زِينا حيثما كنا ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وألا نظهر الصليب على كنائسنا ، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا{[13382]} في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نجاورهم بموتانا ، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ، ولا نطلع عليهم في منازلهم .
قال : فلما أتيت عمر بالكتاب ، زاد فيه : ولا نضرب أحدًا من المسلمين ، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في " أول البقرة " فإن إيمانهم كلا إيمان . { ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله } ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا . { ولا يدينون دين الحق } الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها . { من الذين أوتوا الكتاب } بيان للذين لا يؤمنون . { حتى يُعطوا الجزية } ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزى دينه إذا قضاه . { عن يدٍ } حال من الضمير أي عن يد مؤاتية بمعنى منقادين ، أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه ، أو عن غنى ولذلك قيل : لا تؤخذ من الفقير ، أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقدا مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة . { وهم صاغرون } أذلاء وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه . ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمان بن عوف رضي الله تعالى عنه ، أنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر . وأنه قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين ، وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب ، وعند مالك رحمه الله تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد ، وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير ، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب .
الظاهر أن هذه الآية استيناف ابتدائي لا تتفرّع على التي قبلها ، فالكلام انتقال من غرض نبْذِ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام ، وكانوا يحسبون أنّ في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدّي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلمّا أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوماً فيوماً ، واستقلّ أمره بالمدينة ، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحَنَه نحو المسلمين ، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قُريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها .
ثم لمّا اكتمل نصر الإسلام بفتح مكّة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين ، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية ، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرّقه إليهم ، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم ، فأخذوا يستعدّون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم . ففي « صحيح البخاري » عن عمر بن الخطاب أنّه قال : « كان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوّف مَلِكاً من ملوك غسّان ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا وأنّهم يُنْعِلون الخيلَ لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدُقّ الباب فقال : افتح افتح . فقلت : أجَاء الغسّاني . قال : بل أشَدُّ من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلى آخر الحديث .
فلا جرم لمّا أمِن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم ، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة والنضير وقد هُزموا وكفَى الله المسلمين بأسَهم وأورثَهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنّى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام .
وعن مجاهد : أنّ هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى ، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أنّ السورة نزلت بعد تبوك .
و { مِن } بيانية وهي تُبَيِّن الموصولَ الذي قبلها .
وظاهر الآية أنّ القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول ، وأنّ البيان الواقع بعد الصلة بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحبَ تلك الصلات ، فيقتضي أنّ الفريق المأمور بقتاله فريق واحد ، انتفى عنهم الإيمانُ بالله واليوم الآخر ، وتحريمُ ما حرم الله ، والتديُّنُ بدين الحقّ . ولم يُعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء .
وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى ، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر ، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به ، إذْ أثبتَ اليهود الجسمية لله تعالى وقالوا : { يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ] . وقال كثير منهم : { عزيز ابن الله } [ التوبة : 30 ] .
وأثبت النصارى تعدّد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحقّ ، وأنّ قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء : كقولهم : { لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر . وتكلّف المفسّرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوّع وذلك مَبسوط في تفسير الفخر وكلّه تعسّفات .
والذي أراه في تفسير هذه الآية أنّ المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمتَ ولكنّها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهّم أحد أنّ الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرّغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين .
فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة { ولا يدينون دين الحق } .
وأمّا قوله : { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله { ورسوله } فإدماج . فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى ، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون شيئاً ممّا حرم الله ورسوله لأنّهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرَمون ما حرّم الله في دينهم ولكنّهم لا يدينون دين الحقّ وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أممِ المعروفِ من العالم يومئذٍ ، فقد كانت الروم نصارى ، وكان في العرب النصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبَكر ، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبَكر والبحرين ، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفّرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأنّ الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم .
ولا تحسبنّ أنّ عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكلّ ما صدق عليه اسم الموصول ، فإن الواو لا تقيد إلاّ مطلق الجمع في الحكم فإنّ اسم الموصول قد يكون مراداً به واحد فيكون كالمعهود باللام ، وقد يكون المراد به جنساً أو أجناساً ممّا يثبت له معنى الصلة أو الصلات ، عَلى أنّ حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية ، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً ، والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقراً ومقاماً ، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } [ الفرقان : 63 68 ] فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختصّ المَاصْدَق على طائفة خاصّة بل العبرةِ بالاتّصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى ، والتعويل في مثل هذا على القرائن .
وقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } بيان لأقرب صلة منه وهي صلة { ولا يدينون دين الحق } والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأنّ البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بياناً لجملة الصلة على أنّ القرينة تردّه إلى مردّه . وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنّهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم ، وإنّما دانوا بما حرفوا منه ، ومَا أنكروا منه ، وما ألصقوا به ، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام ، لأنّ كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتّباع النبي الآتي من بعد { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون } [ آل عمران : 81 83 ] .
وقوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . بمعنى لا يجعلون حراماً ما حرّمه الله فإنّ مادة فعَّل تستعمل في جعل المفعول متّصفاً بمصدر الفعل ، فيفيد قوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنّهم يجعلونه مباحاً . والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنّهم يستبيحون ما حرّمه الله على عباده ولمّا كان ما حرمه الله قبيحاً منكراً لقوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] لا جرم أنّ الذين يستبيحونه دلّوا على فساد عقولهم فكانوا أهلاً لردعهم عن باطلهم على أنّ ما حرّم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرّمون ذلك .
والمراد ( برسوله ) محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم .
وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأنّ يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائِل العرب الذين يستظلّون بنصر إحدى هاتين الأمّتين الذينَ تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشَّام حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية .
و { حتّى } غاية للقتال ، أي يستمرّ قتالكم إيّاهم إلى أن يعطوا الجزية .
وضمير { يعطوا } عائِد إلى { الذين أوتوا الكتاب } .
والجِزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض ، بنيتْ على وزن اسم الهيئة ، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا ، فلذلك كان الظاهر . هذا الاسم أنّه معرب عن كلمة ( كِزْيَت ) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسّرون عن الخوارزمي ، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في « مفردات القرآن » . ولم يذكروها في « مُعَرَّب القرآن » لوقوع التردّد في ذلك لأنّهم وجدوا مادّة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شكّ أنّها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عُرّفت في هذه الآية .
وقوله : { عن يد } تأكيد لمعنى { يعطوا } للتنصيص على الإعطاء و { عن } فيه للمجاوزة . أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها ، ومحلّ المجرور الحال من الجزية . والمراد يَد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب « أعطى بيده » إذا انقاد .
وجملة { وهم صاغرون } حال من ضمير يعطوا .
والصاغر اسم فاعل من صَغر بكسر الغين صَغَراً بالتحريك وصَغَاراً . إذا ذلّ ، وتقدّم ذكر الصغار في قوله تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } في سورة الأنعام ( 124 ) ، أي وهم أذلاّء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد : والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي ، وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيباً لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتّباعهم دين الإسلام . وقد دلّت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم ، وخالف ابنُ وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب . وقال لا تقبل منهم جزية ولا بدّ من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب ، دون مشركي العرب : لأنّ حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرّض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] وقوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم } [ التوبة : 11 ] وقوله { ويتوب الله على من يشاء } [ التوبة : 15 ] . ولأنّهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأنّ الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .