يقول تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ } في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب { كَمَثَلِ آدَمَ } فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم ، بل { خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } والذي{[5093]} خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقا من غير أب ، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى ، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل ، فدعواها في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادًا . ولكن الرب ، عَزّ وجل ، أراد أن يظهر قدرته لخلقه ، حين خَلَق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ؛ وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [ مريم : 21 ] . وقال هاهنا : { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل -فأخبرْ به يا محمد الوفد من نصارى نجران- عندي كشبه آدم الذي خلقته من تراب، ثم قلت له كن فكان، من غير فحل، ولا ذكر، ولا أنثى. يقول: فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى، فكان لحما، يقول: وأمري إذ أمرته أن يكون فكان، فكذلك خلقي عيسى أمرته أن يكون فكان.
وذكر أهل التأويل أن الله عزّ وجلّ أنزل هذه الآية احتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين حاجوه في عيسى.
{ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فإنما قال: «فيكون»، وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضى، وقد أخرج الخبر عنه مخرج الخبر عما قد مضى، فقال جل ثناؤه: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ}، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيه أن تكوينه الأشياء بقوله: {كُنْ}، ثم قال: «فيكون» خبرا مبتدأ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله: «كن».
فتأويل الكلام إذا: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب، ثم قال له كن¹، واعلم يا محمد أن ما قال له ربك: كن، فهو كائن. فلما كان في قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُنْ} دلالة على أن الكلام يراد به إعلام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداء من غير أصل ولا أول ولا عنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى، وقيل: فيكون، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى. وقد قال بعض أهل العربية: فيكون رفع على الابتداء ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} يحتمل وجهين: والله أعلم: أحدهما: أن الله جل وعلا صور صورة آدم من طين، ثم جعل فيه الروح، لم يجز أن يقال: صار آدم حيا من نفسه لوجود صورته، كيف جاز لكم أن تقولوا: إن عيسى لما صور ذلك الطير صار محييا بتصويره إياه دون إحياء الله تعالى إياه، والله أعلم؟ والثاني: أن آدم عليه السلام خلق من لا أب وأم، ثم لم تقولوا: إنه رب أو إله، كيف قلتم في عيسى: إنه إله؟ وإنه خلق لا من أب، إذ عدم الأبوة في آدم لم توجب أن يكون ربا، كيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربا وإلها؟ والله الموفق، وإنما كان عيسى بقوله: {كن} كما كان آدم أيضا ب {كن} من غير أب. {كن}: قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب، يعبر، فيؤدي المعنى، فيفهم المراد إلا أن كان من الله جل وعلا كاف نون أو وقت أو حرف، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق، تعالى الله عن ذلك. {فيكون} يحتمل وجهين: أحدهما: يحتمل {فيكون} بمعنى كان، والعرب تستعمل ذلك، ولا تأباه. والثاني: أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
خَصَّهما بتطهير الروح عن التناسخ في الأصلاب وأفرد آدم بصفَةِ البدء؛ وعيسى عليه السلام بتخصيص نفخ الروح فيه على وجه الإعزاز، وهما وإنْ كانا كبيري الشأن فنِقْصُ الحدثان والمخلوقية لازِمٌ لهما: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم...
فإن قلت: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم؟ قلت: هو مثيله في إحدى الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة، وهما في ذلك نظيران، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه...
{خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} قدّره جسداً من طين، {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن}: أي أنشأه بشراً كقوله {ثُمَّ أَنشأناه خلقاً آخر} [المؤمنون: 14] {فَيَكُونُ} حكاية حال ماضية...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{عند الله} عبارة عن الحق في نفسه، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم...
إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس... المسألة الأولى: {مثل عيسى عند الله كمثل ءادم} أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} [الرعد: 35] أي صفة الجنة...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قال بعض أهل العلم: المشاركة بين آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً: في التكوين، و: في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا. وفي العبودية، وفي النبوّة. وفي المحنة: عيسى باليهود، وآدم بإبليس، وفي: أكلهما الطعام والشراب، وفي الفقر إلى الله. وفي الصورة، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض، وفي الإلهام، عطس آدم فألهم، فقال الحمد لله. وألهم عيسى، حين أخرج من بطن أمّة فقال: {إني عبد الله} وفي العلم، قال: {وعلم آدم الاسماء} وقال: {ويعلمه الكتاب والحكمة} وفي نفخ الروح فيهما {ونفخت فيه من روحي} {فنفخنا فيه من روحنا} وفي الموت، وفي فقد الأب. ومعنى: عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر، وكيف هو...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال: {إن مثل عيسى} أي في كونه من أنثى فقط {عند الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في إخراجه من غير سبب حكمي عادي {كمثل آدم} في أن كلاًّ منهما أبدع من غير أب، بل أمر آدم أعجب فإنه أوجده من غير أب ولا أم، ولذلك فسر مثله بأنه {خلقه} أي قدره وصوره جسداً من غير جنس البشر، بل {من تراب} فعلمنا أن تفسير مثل عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم فقط بغير أب، فمثل عيسى أقل غرابة من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث إنهم لم يعهدوا مثله، فلذلك كان مثل آدم مثلاً له موضحاً لأنه مع كونه أغرب أشهر (وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمأ وغيره كما في غير هذا الموطن، لأن التراب أغلب أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو أكثف الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير أعجب).
ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل عيسى كل ولد نشاهده تولد من أنثى، ومثل آدم كل حيوان نشاهده تولد من تراب، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق عيسى عليه الصلاة والسلام الطير من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد من تراب في أن كلاًّ منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى، وإلا لكان كل جماع موجباً للولد وكل تراب موجباً لتولد الحيوان منه، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه ولد علمنا أن الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق به عادة الجماع فيجعله موجباً للحبل وبين أن يريد كونه من أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن من التوليد بين الذكر والأنثى، كما أنا لما علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعاً أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريباً: إن الله قادر على أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب وسبب، بل كلها في قدرته سواء، وإلى ذلك أشار قوله: {ثم قال له كن} أي بشراً كاملاً روحاً وجسداً، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في
{فيكون} دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهب أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها إشارة إلى أنه كان مع الأمر من غير تخلف وتنبيهاً على أن هذا هو الشأن دائماً، يتجدد مع كل مراد، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلاً -كما تقدم التصريح به في آية إذا قضى أمراً} [البقرة: 117] وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين يجادل عن معتقدهم وفد نجران، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس، وكان العدل أن يقاس في خرقه للعادة بأبي أمه الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة، لا بخالقه ومكونه تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال الحرالي: جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه السلالة الطينية، وغايته النفخة الأمرية، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه الروحية والكلمة، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية، حتى قال صلى الله عليه وسلم: إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من بني أسد ويولد له غلام لتكمل به الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلاً واحداً أعلى جامعاً {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} [الروم: 27]- انتهى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع "كن فيكون "والمعنى: ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا. ويظهر هذا في مثل قوله تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} [الأنعام: 73] ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا. لأن قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة. ولعل من تأمله حق التأمل لا يجد عنه منصرفا. والعطف بثم لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخره عن الخلق الأول. وهل كان في هذه المدة على صفة واحدة أم تقلب في أطوار مختلفة كما تتقلب ذريته؟ اقرأ قوله تعالى: {وقد خلقكم أطوارا} [نوح: 14]... وفي الكلام إرشاد إلى أن أمر الخليقة يشبه بعضه بعضا فكله غريب بالنسبة إلينا إذا تفكرنا في حقيقتها وعللها ولا شيء منه بغريب عند الموجد المبدع. أما القوانين المعروفة في علم الخليقة فهي قد استخرجت ما نعهده ونشاهده وليست قوانين عقلية قامت البراهين على استحالة ما عداها كيف وأننا نرى في كل يوم ما يخالفها كالحيوانات التي لها أعضاء زائدة والتي تولد من غير جنسها، وترون ذكر ذلك في الجرائد ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة، وهو إنما خالف ما نعرف لا ما يعلم الله تعالى. وما يدرينا أن لكل هذه الشواذ والفلتات سننا مطردة محكمة لم تظهر لنا. وكذلك شأن خلق عيسى فكونه على غير المعهود ليس مزية تقتضي تفضيله عليهم. فكيف تقتضي أن يكون إلها؟ وإذا كان عيسى قد خلق من بعض جنسه فآدم قد خلق من غير جنسه، فهو أولى بالمزية لو كانت وبالإنكار إن صح، على أن ما نعرف من أمر الخلقية ليس لنا منه إلا الظاهر، نصفه ونقول به وإن لم نعقله، وماذا نعقل من الرابطة بين الحس والنطق في الإنسان مثلا؟ بل ماذا نعقل من أمر حبة الحنطة في نبتها واستوائها على سوقها وتناسب أوراقها وغير ذلك؟...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق، بغير برهان ولا شبهة، بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية، وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة، لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته، فهو على نقيض قولهم أدل، وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه هي طريقة "الذكر الحكيم "في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط، في اعقد القضايا، التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا شروع في إبطال عقيدة النصارى من تألِيهِ عيسى، وردّ مطاعنهم في الإسلام وهو أقطع دليل بطريق الإلزام؛ لأنهم قالوا بإلاهية عيسى من أجل أنه خلق بكلمةٍ من الله وليس له أب، فقالوا: هو ابن الله، فأراهم الله أنّ آدم أوْلَى بأن يُدّعَى له ذلك، فإذا لم يكن آدم إلاهاً مع أنه خلق بدون أبوين فعيسى أولى بالمخلوقية من آدمَ.
ومحل التمثيل كون كليهما خُلق من دون أب، ويزيد آدمُ بكونه من دون أم أيضاً، فلذلك احتيج إلى ذكر وجه الشبه بقوله: {خلقه من تراب} الآية أي خلقه دون أب ولا أم بل بكلمة كن، مع بيان كونه أقوى في المشبه به على ما هو الغالب. وإنما قال عند الله أي نسبته إلى الله لا يزيد على آدم شيئاً في كونه خلْقاً غيرَ معتاد، لكم لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجباً للمسيحَ نسبةَ خاصة عند الله وهي البُنوة...
والضمير في خلقه لآدم لا لعيسى؛ إذ قد علِم الكلُّ أنّ عيسى لم يُخلق من تراب، فمحل التشبيه قوله: {ثم قال له كن فيكون}.
وجملة {خلقه} وما عطف عليها مُبيِّنة لجملة كمثل آدم.
وثم للتراخي الرتبي فإنّ تكوينه بأمر {كن} أرفع رتبة من خلقه من تراب، وهو أسبق في الوجود والتّكوين المشار إليه بكن: هو تكوينه على الصفة المقصودة، ولذلك لم يقل: كَوّنه من تراب ولم يقل: قال له كُن من تراب ثم أحياه، بل قال خلقه ثم قال له كن. وقول كن تعبير عن تعلق القدرة بتكوينه حياً ذا روح ليعلم السامعون أنّ التكوين ليس بصنع يد، ولا نحتٍ بآلة، ولكنه بإرادةٍ وتَعَلقِ قدرةٍ وتسخيرِ الكائنات التي لها أثر في تكوين المراد، حتى تلتئم وتندفع إلى إظهار المكوّن وكلّ ذلك عن توجه الإرادة بالتنجيز، فبتلك الكلمة كان آدمُ أيضاً كلمةً من الله ولكنه لم يوصف بذلك لأنّه لم يقع احتياج إلى ذلك لِفوات زمانه.
وإنما قال: {فيكون} ولم يقل فكَان لاستحضار صورة تَكَوُّنِه، ولا يحمل المضارع في مثل هذا إلاّ على هذا المعنى، مثل قوله: {اللَّهُ الذي أرسل الرياح فتثير سَحاباً} [فاطر: 9] وحمله على غير هذا هنا لا وجه له.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى كيف كان الحمل بعيسى،وما أجراه الله تعالى على يديه من معجزات،وكيف كان عبدا من عباده الصالحين،وذكر دعوته على ربه،ومعاداة قومه له،وتقدم الحواريين ليكونوا أنصاره إلى الله،وكيف مكر القوم به وأحبط الله مكرهم،ثم توفاه سبحانه،ورفعه غليه،وجعل فوقية للذين اتبعوه في هدايته،فآمنوا بوحدانية الله وبرسالته،وليس منهم قطعا أولئك الذين قالوا إنا نصارى وادعوا ألوهيته،أو أنه ابن الله،تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإنه في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى حقيقة تكوين عيسى،ويزيل وجه الغرابة في ولادته، وأن الله تعالى لا يتقيد بالأسباب والمسببات؛ لأنه خالق كل شئ،وهو الفاعل المختار،يخلق الأشياء بإرادته واختياره،ولا تصدر عنه المخلوقات صدور المعلول عن علته،كما يتوهم الماديون الذين عاصروا عيسى عليه السلام،والذين يعاصروننا اليوم،وإن الله سبحانه كما خلق الإنسان الأول آدم من غير أب ولا ام،فكذلك خلق عيسى من غير أب،وهو سبحانه ذو القوة المتين.
ولقد بين سبحانه هذه الحقيقة بقوله:
{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} يبين الله بهذا النص الكريم مكان خلق عيسى عليه السلام من قدرته سبحانه وتعالى،بجوار خلق آدم من تراب؛ فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب،أي من غير أب ولا ام،ومن مادة ليس من شانها ان يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم،وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها؛ ومعنى النص الكريم:إن حال عيسى في تصويره وتكوينه من غير أب بالنسبة لقدرة الله تعالى كحال آدم صوره وكونه من طين.
وفي هذا التمثيل احتجاج على النصارى الذين الهوا المسيح عيسى ابن مريم لأنه خلق من غير أب،واعتبروه ابن الله والاحتجاج من وجهين:
أولهما:أنه إذا كان خلق عيسى من غير أب مسوغا في زعمهم لن يكون إلها او ابن إله،فأولى بذلك ثم أولى آدم؛ لأنه خلق من غير أب ولا ام،ولا أحد من الناس ادعى ألوهية آدم لهذا السبب فيبطل حينئذ ذلك الزعم الباطل لانهيار الأساس الذي قام عليه.
ثانيهما:ان الله سبحانه وتعالى إذا كان قادرا على خلق إنسان حي من غير أب ولا ام،ومن مادة ليس من شأنها ان يتكون منها إنسان حي،فأولى ان يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب،ومن ام هي إنسان يلد ويحيا ويموت،وهي وعاء لحياة الإنسان وهو جنين؛ وإذا فلا غرابة في خلق عيسى من غير أب،وما كان يصح ان يكون هذا دافعا لهذا الضلال المبين.
والنص الكريم فوق ما تضمنته من حجة دامغة تقطع دعوى المبطلين،وهو بيان لقدرة الله تعالى العلي القدير في خلق الأحياء وخلق الأشياء،من حيث إنها تخلق بإرادته المختارة،وانه بهذه الإرادة يخلق الحي من غير الحي،ويخلق الحي على غير النظام الجاري في مجرى العادات،وما نسميه طبائع الأشياء في التكوين والتوالد،ولا تصدر عنه الأشياء كما يصدر المعلول عن علته، وإلا ما كان من الطين إنسان حي ناطق هو ابو الخليقة آدم عليه السلام.ولذا بين سبحانه بعد ذلك عظم إرادة الله تعالى في خلق آدم:
{ثم قال له كن فيكون} هذا تصوير لخلق الله تعالى آدم من تراب،أراد سبحانه وتعالى ان يكون فصوره من طين،ثم قال له لما صوره آمرا له امرا تكوينيا "كن "فكان.وهذه الجملة السامية تصور خلق الله سبحانه وتعالى للأشياء الأحياء وغير الأحياء،فليست إلا ان تتجه الإرادة إلى تكوينها، فيكون المر التكويني،وتكون الاستجابة التكوينية،ويكون الأمر كما أراد سبحانه.وقال سبحانه وتعالى بالنسبة لخلق آدم عليه السلام: {كن فيكون} ولم يقل كن فكان،وهو المناسب للماضي،وذلك لن التعبير بالمضارع دائما فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت،ومن جهة أخرى فصيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان،وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل كما كان في الماضي.