تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

قال البخاري : حدثنا محمد ، أخبرني ابن عيينة ، عن عَمْرو ، عن ابن عباس ، قال : كانت عكاظ ومَجَنَّة ، وذو المجاز أسواق الجاهلية ، فتأثَّموا أن يتجروا في المواسم{[3587]} فنزلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } في مواسم الحج{[3588]} .

وهكذا رواه عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وغير واحد ، عن سفيان بن عيينة ، به{[3589]} .

ولبعضهم : فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية . وكذلك{[3590]} رواه ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : كان متجر الناس في الجاهلية عكاظُ ومَجّنةُ وذو المجاز ، فلما كان{[3591]} الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى نزلت هذه الآية .

وروى أبو داود ، وغيره ، من حديث يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يَتَّقون البيوع والتجارة في الموسم ، والحج ، يقولون : أيام ذكر ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ }{[3592]} .

وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنه قال : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل

الإحرام وبعده . وهكذا رَوَى العوفي ، عن ابن عباس

وقال وَكِيع : حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " . [ وقال عبد الرزاق : عن أبيه عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد : سمعت ابن الزبير يقول : " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج " ] {[3593]} .

ورواه عبد بن حميد ، عن محمد بن الفضل ، عن حماد بن زيد ، عن عبيد الله{[3594]} بن أبي يزيد ، سمعت ابن الزبير يقرأ{[3595]} - فذكر مثله سواء{[3596]} . وهكذا فسرها مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومنصور بن المعتمر ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والربيع بن أنس ، وغيرهم .

وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا شبابة بن سَوّار ، حدثنا شعبة ، عن أبي أميمة{[3597]} قال : سمعت ابن عمر - وسُئِل عن الرجل يحجُّ ومعه تجارة - فقرأ ابن عمر : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ }

وهذا موقوف ، وهو قوي جيد{[3598]} . وقد روي مرفوعًا قال أحمد : حدثنا [ أحمد بن ]{[3599]} أسباط ، حدثنا الحسن بن عَمْرو الفُقَيمي ، عن أبي أمامة التيمي ، قال : قلت لابن عمر : إنا نكري ، فهل لنا من حج ، قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون المُعَرَّفَ ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قال : قلنا{[3600]} : بلى . فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه ، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أنتم حجاج " {[3601]} .

وقال{[3602]} عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن العلاء بن المسيب ، عن رجل من بني تيم الله قال : جاء رَجُل إلى عبد الله بن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إنا قوم نُكْري ، ويزعمون أنه ليس لنا حج . قال : ألستم تحرمون كما يحرمون ، وتطوفون كما يطوفون ، وترمون كما يرمون ؟ قال : بلى . قال : فأنت حاج{[3603]} . ثم قال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عما سألت عنه ، فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ }{[3604]} .

ورواه عَبْد [ بن حميد في تفسيره ]{[3605]} عن عبد الرزاق به . وهكذا روى هذا الحديث ابن{[3606]} حذيفة ، عن الثوري ، مرفوعًا . وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعًا{[3607]} .

وقال{[3608]} ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عباد بن العوام ، عن العلاء بن المسيب ، عن أبي أمامة التيمي ، قال : قلت لابن عمر : إنا أناس نُكْرَي في هذا الوجه إلى مكة ، وإن أناساً يزعمون أنّه لا حج لنا ، فهل ترى لنا حجاً ؟ قال : ألستم تحرمون ، وتطوفون بالبيت ، وتقفون{[3609]} المناسك ؟ قال : قلت : بلى . قال : فأنتم حجاج . ثم قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن [ مثل ]{[3610]} الذي سألت ، فلم يَدْر ما يعود عليه - أو قال : فلم يَرُدّ عليه شيئا - حتى نزلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } فدعا الرجل ، فتلاها عليه ، وقال : " أنتم حجاج " {[3611]} .

وكذا رواه مسعود بن سعد ، وعبد الواحد بن زياد ، وشَريك القاضي ، عن العلاء بن المسيب به مرفوعاً .

وقال ابن جرير : حدثني طليق{[3612]} بن محمد الواسطي ، حدثنا أسباط - هو ابن محمد - أخبرنا الحسن بن عَمْرو - هو الفقَيْمِي - عن أبي أمامة التيمي . قال : قلت لابن عمر : إنا قوم نُكْرَي ، فهل لنا من حج ؟ فقال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون المُعَرّف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم ؟ قلنا : بلى . قال{[3613]} جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن الذي سألتني عنه ، فلم يدر ما يقول له ، حتى نزل جبريل ، عليه السلام ، بهذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } إلى آخر الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتم حجاج " {[3614]} .

وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا مَنْدل ، عن عبد الرحمن بن المهاجر ، عن أبي صالح مولى عمر ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، كنتم تتجرون في الحج ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟

وقوله تعالى : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }

إنما صَرَفَ " عرفات " وإن كان علما على مؤنث ؛ لأنه في الأصل جَمْع كمسلمات ومؤمنات ، سمي به بقعة معينة ، فروعي فيه الأصل ، فصرف . اختاره ابن جرير .

وعرفة : موضع الموقف{[3615]} في الحج ، وهي عمدة أفعال الحج ؛ ولهذا روى الإمام أحمدُ ، وأهل السنن ، بإسناد صحيح ، عن الثوري ، عن بكير بن{[3616]} عطاء ، عن عبد الرحمن بن يَعْمر الديَلي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر ، فقد أدرك . وأيام منى ثلاثة{[3617]} فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه " {[3618]} .

ووقت الوقوف من الزوال يومَ عرفة إلى طُلُوع الفجر الثاني من يوم النحر ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع ، بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس ، وقال : " لتأخُذوا عني مناسككم " {[3619]} .

وقال في هذا الحديث : " فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك " وهذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عَرَفة . واحتجوا بحديث الشعبي ، عن عروة بن مُضَرِّس بن حارثة بن لام{[3620]} الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جَبَليْ{[3621]} طيئ ، أكللت{[3622]} راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حَج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شَهِد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حَجّه ، وقضى تَفَثَه " .

رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي{[3623]} .

ثم قيل : إنما سميت عَرَفات لما رواه عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج قال : قال ابن المسيب : قال علي بن أبي طالب : بعث الله جبريل ، عليه السلام ، إلى إبراهيم ، عليه السلام ، فحج به ، حتى إذا أتى عرفة قال : عرفت ، وكان قد{[3624]} أتاها مرة قبل ذلك ، فلذلك سميت عَرَفة .

وقال ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : إنما سميت عرفة ، أنّ جبريل كان يُرِي إبراهيم المناسك ، فيقول : عَرَفْتُ عَرَفْتُ . فسمي " عرفات " . وروي نحوه عن ابن عباس ، وابن عمر وأبي مِجْلز ، فالله أعلم .

وتسمى عرفات المشعر الحلال ، والمشعر{[3625]} الأقصى ، وإلال - على وزن هلال - ويقال للجبل في وسطها : جَبَلُ الرحمة . قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :

وبالمشعَر الأقصى إذا قصدوا له *** إلال إلى تلك الشِّراج القَوَابل{[3626]}

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حماد بن الحسن بن عَنْبَسَة ، حدثنا أبو عامر ، عن زمعة - هو ابن صالح - عن سلمة - هو ابن وَهْرَام{[3627]} - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال ، كأنها العمائم على رؤوس الرجال ، دفعوا ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس .

ورواه ابن مَرْدُويه ، من حديث زمعة بن صالح ، وزاد : ثم وقف بالمزدلفة ، وصلى الفجر بغَلَس ، حتى إذا أسفر{[3628]} كل شيء وكان في الوقت الآخر ، دفع . وهذا حَسَنُ الإسناد .

وقال ابن جُرَيْج ، عن محمد بن قيس ، عن المسْوَر بن مَخْرَمة قال : خَطَبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بعرفات ، فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : " أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال : أما بعد - فإن هذا اليوم الحجَ الأكبر ، ألا وإن أهلَ الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس ، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال ، كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس ، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس ، إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ، مُخَالفاً هَدْيُنَا هَدْي أهل الشرك " .

هكذا رواه ابن مَرْدُيَه وهذا لفظه ، والحاكم في مستدركه ، كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي ، عن عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن جريج ، به . وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . قال : وقد صح وثَبَت بما ذكرناه سماع المِسْوَر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا كما يتوهمه رعاع أصحابنا أنّه ممن له رؤية{[3629]} بلا سماع{[3630]} .

وقال وَكِيع ، عن شعبة ، عن إسماعيل بن رجاء [ الزبيدي ]{[3631]} عن المعرور بن سويد ، قال : رأيت عمر ، رضي الله عنه ، حين دفع من عرفة ، كأني أنظر إليه رَجُلا أصلع على بعير له ، يُوضِع {[3632]} وهو يقول : إنا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع .

وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل ، الذي في صحيح مسلم ، قال فيه : فلم يزل واقفا - يعني بعرفة - حتى غربت الشمس ، وذهبت{[3633]} الصُّفْرَة قليلا حتى غاب القُرْصُ ، وأردف أسامة خلفه ، ودفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شَنَقَ للقصواء الزّمام ، حتى إنّ رأسها ليصيب مَوْرك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " . كلما أتى جبلا من الجبال أرْخَى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المُزْدَلِفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يُسَبِّحْ بينهما شيئا ، ثم اضطجع حتى طلع الفَجرُ فصلى الفجر حين تَبَيَّن له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعرَ الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعا الله وكبره وهَلَّله ووحَّده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن تطلُع الشمس {[3634]} وفي الصحيح{[3635]} عن أسامة بن زيد ، أنه سُئِل كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دَفَعَ ؟

قال : " كان يسير العَنَق ، فإذا وجد فَجْوَة نَص " {[3636]} . والعنق : هو انبساط السير ، والنص ، فوقه .

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي ، فيما كَتَب إليّ ، عن أبيه أو عمه ، عن سفيان بن عيينة قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وهي الصلاتين{[3637]} جميعاً .

وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن عمرو بن ميمون : سألت عبد الله بن عَمْرو عن المشعر الحرام ، فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ هذا المشعر الحرام .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سالم قال : قال ابن عمر : المشعر الحرام المزدلفة كلها{[3638]} .

وقال هُشَيم ، عن حجاج{[3639]} عن نافع ، عن ابن عمر : أنه سئل عن قوله : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } قال : فقال : هو الجبل وما حوله .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن المغيرة ، عن إبراهيم قال : رآهم ابن عُمَر يزدحمون على قُزَحَ ، فقال : عَلام يزدحم هؤلاء ؟ كل ما هاهنا مشعر{[3640]} .

وروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة أنهم قالوا : هو ما بين الجبلين .

وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أين المزدلفة ؟ قال : إذا أفَضْت{[3641]} من مَأزمي عرفة فذلك إلى مُحَسِّر . قال : وليس المأزمان مَأزما عرفة من المزدلفة ، ولكن مُفَاضَاهما{[3642]} . قال : فقِف{[3643]} بينهما إن شئت ، قال : وأحب أن تَقفَ دون قُزَح ، هَلُمّ إلينا من أجل طريق الناس .

قلت : والمشاعر هي المعالم الظاهرة ، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام ؛ لأنها داخل الحرم ، وهل الوقوف بها ركن في الحج لا يصح إلا به ، كما ذهب إليه طائفة من السلف ، وبعض أصحاب الشافعي ، منهم : القفال ، وابن خُزَيمة ، لحديث عُرْوة بن مُضَرس ؟ أو واجب ، كما هو أحد قولي الشافعي يجْبَر بدم ؟ أو مستحب لا يجب{[3644]} بتركه شيء كما هو القول الآخر ؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء ، لبسطها موضع آخر غير هذا ، والله أعلم .

وقال عبد الله بن المبارك ، عن سفيان الثوري ، عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عَرَفَةُ كلها موقف ، وارفعوا عن عُرَنة{[3645]} ، وجَمْع كلها مَوقف إلا مُحَسرًا " {[3646]} .

هذا حديث مرسل . وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، حدثني سليمان بن موسى ، عن جبير بن مطعم{[3647]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : " كل عرفات موقف ، وارفعوا عن عُرَنة{[3648]} . وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن مُحَسِّر ، وكل فجاج مكة مَنْحر ، وكل أيام التشريق ذبح " {[3649]} .

وهذا أيضا منقطع ، فإن سليمان بن موسى هذا - وهو الأشدق - لم يدرك جُبَير بن مطعم . ولكن رواه الوليد بن مسلم ، وسويد بن عبد العزيز ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن سليمان ، فقال الوليد : عن ابن لجبير{[3650]} بن مطعم ، عن أبيه . وقال سويد : عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره ، والله أعلم .

وقوله : { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } تنبيه لهم على ما أنْعَم به عليهم ، من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج ، على ما كان عليه إبراهيم الخليل ، عليه السلام ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } قيل : من قبل هذا الهدي ، وقبل القرآن ، وقبل الرسول ، والكل متقارب ، ومتلازم ، وصحيح .


[3587]:في جـ، ط: "في الموسم".
[3588]:صحيح البخاري برقم (4519).
[3589]:تفسير عبد الرزاق (1/65) وسنن سعيد بن منصور برقم (347).
[3590]:في ط: "وكذا".
[3591]:في جـ، ط: "فلما جاء".
[3592]:سنن أبي داود برقم (1731).
[3593]:زيادة من جـ، ط، و.
[3594]:في جـ: "عبد الله".
[3595]:في جـ: "يقول".
[3596]:في و: يقرأ: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
[3597]:في جـ، ط: "عن أبي أمامة".
[3598]:في أ: "جدا".
[3599]:زيادة من أ.
[3600]:في ط: "قال: قلت".
[3601]:المسند (2/155).
[3602]:في جـ، ط، أ، و: "وقد قال".
[3603]:في جـ: "فأنتم حجاج".
[3604]:ورواه الطبري في تفسيره (4/169) من طريق عبد الرزاق به.
[3605]:زيادة من و.
[3606]:في جـ، ط، أ، و: "أبو".
[3607]:وانظر ذكر هذه الطرق في: حاشية الشيخ سعد الحميد على سنن سعيد بن منصور برقم (352) فقد أجاد وأفاد، ولولا خشية الإطالة لنقلته هاهنا.
[3608]:في جـ، ط، أ، و: "فقال".
[3609]:في جـ، ط، أ، و: "تقضون".
[3610]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[3611]:ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (3051) من طريق مروان بن معاوية عن العلاء بن المسيب به، ورواه أبو داود في السنن برقم (1733) من طريق عبد الواحد بن زياد عن العلاء بن المسيب به.
[3612]:في جـ: "طلق".
[3613]:في جـ، ط: "فقال".
[3614]:تفسير الطبري (4/164).
[3615]:في جـ، ط، و: "موضع الوقوف" وفي أ: "مواضع الوقوف".
[3616]:في جـ، ط، أ، و: "عن" والمثبت من أ.
[3617]:في أ: "ثلاث".
[3618]:المسند (4/335) وسنن أبي داود برقم (1949) وسنن الترمذي برقم (2975) وسنن النسائي (5/264) وسنن ابن ماجة برقم (3015).
[3619]:رواه مسلم في صحيحه برقم (1297) من حديث جابر رضي الله عنه.
[3620]:في جـ: "ابن الإمام".
[3621]:في جـ، ط، أ:: من جبل".
[3622]:في جـ: "أظللت".
[3623]:المسند (4/15) وسنن أبي داود برقم (1950) وسنن الترمذي برقم (891) وسنن النسائي (5/263) وسنن ابن ماجة برقم (3016).
[3624]:في جـ: "وقد كان".
[3625]:في ط: "المشعر الحرام".
[3626]:البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/274).
[3627]:في جـ: "هو ابن هشام".
[3628]:في أ: "إذا استقر".
[3629]:في جـ: "ممن له رواية".
[3630]:المستدرك (2/277).
[3631]:زيادة من و.
[3632]:في أ: "فوضع".
[3633]:في جـ، ط، أ، و: "وبدت".
[3634]:صحيح مسلم برقم (1218).
[3635]:في جـ، ط، أ، و: "وفي الصحيحين".
[3636]:صحيح البخاري برقم (1666، 4413) وصحيح مسلم برقم (1286).
[3637]:كذا في جـ، ط، وهو خطأ، والصواب: "الصلاتان".
[3638]:رواه الطبري في تفسيره (4/176) من طريق عبد الرزاق به.
[3639]:في جـ: "عن الحجاج".
[3640]:رواه الطبري في تفسيره (4/177، 178) من طريق عبد الرزاق به.
[3641]:في جـ، ط: "إذا أفضيت"، وفي أ: "إذا قضيت".
[3642]:في أ، و: "مقضاهما".
[3643]:في جـ: "فتقف".
[3644]:في جـ: "لا يجبره".
[3645]:في أ، و: "عن عرفة".
[3646]:رواه الطبري في التفسير (4/179) وقد جاء موصولا من حديث جابر رضي الله عنه، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3012) وأصله في صحيح مسلم برقم (1218) أ. هـ مستفادا من حاشية الشيخ أحمد شاكر على تفسير الطبري.
[3647]:في ط: "عن جبير بن مطعم عن أبيه".
[3648]:في أ: "عرفات" وفي و: "عرنات".
[3649]:المسند (4/82).
[3650]:في أ: "عن جبير".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

القول في تأويل قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضّآلّينَ ]

يعني بذلك جل ذكره : ليس عليكم أيها المؤمنون جناح . والجناح : الحرج كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده .

وقوله : أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ يعني أن تلتمسوا فضلاً من عند ربكم ، يقال منه : ابتغيت فضلاً من الله ومن فضل الله أبتغيه ابتغاء : إذا طلبته والتمسته ، وبغيته أبغيه بغيا ، كما قال عبد بني الحسحاس :

بَغاكَ وَما تَبْغِيهِ حّتى وَجَدْتَهُ كأنّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أمْسِ مَوْعِدَا

يعني طلبك والتمسك . وقيل : إن معنى ابتغاء الفضل من الله : التماس رزق الله بالتجارة ، وأن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا يلتمسون البرّ بذلك ، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا برّ في ذلك وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء . ذكر من قال ذلك :

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد ، قال : كانوا يحجون ولا يتجرون ، فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : في الموسم .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عمر بن ذرّ ، قال : سمعت مجاهدا يحدّث ، قال : كان ناس لا يتجرون أيام الحجّ ، فنزلت فيهم لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .

حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا أبو ليلى ، عن بريدة في قوله تبارك وتعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : إذا كنتم محرمين أن تبيعوا وتشتروا .

حدثنا طليق بن محمد الواسطي ، قال : أخبرنا أسباط ، قال : أخبرنا الحسن بن عمرو ، عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا قوم نكري فهل لنا حجّ ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعروف وترمون الجمار وتحلقون رءوسكم ؟ فقلنا : بلى . قال : جاء رجل إلى النبي : صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه ، فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ إلى آخر الآية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أنْتُمْ حُجّاجٌ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : أخبرنا أيوب ، عن عكرمة ، قال : كانت تقرأ هذه الآية : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحجّ » .

حدثنا عبد الحميد ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن منصور بن المعتمر في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : هو التجارة في البيع والشراء ، والاشتراء لا بأس به .

حدثت عن أبي هشام الرفاعي ، قال : حدثنا وكيع ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحج » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن عليّ بن مسهر ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : كان مَتْجَر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى أنزل الله جل ثناؤه : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .

حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا شبابة بن سوار ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي أميمة ، قال : سمعت ابن عمر ، وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة ، فقرأ ابن عمر : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كانوا لا يتجرون في أيام الحجّ ، فنزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فِي مواسم الحج .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي ، عن عطاء قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحج ، هكذا قرأها ابن عباس .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : التجارة في الدنيا ، والأجر في الاَخرة .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : التجارة أحلت لهم في المواسم ، قال : فكانوا لا يبيعون ، أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ كان هذا الحيّ من العرب لا يعرّجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر ، وكانوا يسمونها ليلة الصّدَر ، ولا يطلبون فيها تجارة ولا بيعا ، فأحلّ الله عز وجل ذلك كله للمؤمنين أن يعرجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن الزبير يقول : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحج .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : قال ابن عباس : كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحجّ .

حدثنا أحمد بن حازم والمثنى ، قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن سوقة ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : كان بعض الحاج يسمون الداجّ ، فكانوا ينزلون في الشقّ الأيسر من منى ، وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى ، فكانوا لا يتجرون ، حتى نزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فحجّوا .

حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عمر بن ذر ، عن مجاهد ، قال : كان ناس يحجون ولا يتجرون ، حتى نزلت : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ ، قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ : هي التجارة ، قال : اتجروا في الموسم .

حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني فأبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم ، فأحله الله لهم .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة أيام الموسم ، يقولون أيام ذكر ، فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فحجوا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الحَج » .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : لا بأس بالتجارة في الحجّ ، ثم قرأ : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ قال : كان هذا الحيّ من العرب لا يعرّجون على كسير ولا على ضالة ولا ينتظرون لحاجة ، وكانوا يسمونها ليلة الصدَر ، ولا يطلبون فيها تجارة فأحلّ الله ذلك كله أن يعرجوا على حاجتهم ، وأن يطلبوا فضلاً من ربهم .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن عبد الرحمن بن المهاجر ، عن أبي صالح مولي ، عمر ، قال : قلت لعمر : يا أمير المؤمنين ، كنتم تتجرون في الحجّ ؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن العلاء بن المسيب ، عن رجل من بني تيم الله ، قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمر ، فقال : يا أبا عبد الرحمن : إنا قوم نُكري فيزعمون أنه ليس لنا حج ؟ قال : ألستم تحرمون كما يحرمون ، وتطوفون كما يطوفون ، وترمون كما يرمون ؟ قال : بلى ، قال : فأنت حاجّ ، جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه ، فنزلت هذه الآية : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا بتجارة ، ولم يعرّجوا على كسير ، ولا على ضالة فأحلّ الله ذلك ، فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ . . . إلى آخر الآية .

3حدثني سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية ، فكانوا يتجرون فيها ، فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها ، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبّكُمْ في مواسم الحج .

القول في تأويل قوله تعالى : فإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ .

يعني جل ثناؤه بقوله : فإذَا أفَضْتُمْ فإذا رجعتم من حيث بدأتم . ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار مفيض ، لجمعه القداح ثم إفاضته إياها بين الياسرين ، ومنه قول بشر بن أبي حازم الأسدي :

فَقُلْتُ لَهَا رُدّي إلَيْهِ جَنَانَهُ فَرَدّتْ كمَا رَدّ المَنِيحَ مُفِيضُ

ثم اختلف أهل العربية في عرفات ، والعلة التي من أجلها صرفت وهي معرفة ، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع ؟

فقال بعض نحويي البصريين : هي اسم كان لجماعة مثل مسلمات ومؤمنات ، سميت به بقعة واحدة فصرف لمّا سميت به البقعة الواحدة ، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة تركا منهم له على أصله لأن التاء فيه صارت بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون لأنه تذكيره ، وصار التنوين بمنزلة النون ، فلما سمي به ترك على حاله كما يترك «المسلمون » إذا سمي به على حاله . قال : ومن العرب من لا يصرفه إذا سميّ به ، ويشبه التاء بهاء التأنيث وذلك قبيح ضعيف . واستشهدوا بقوله الشاعر :

تَنَوّرْتُها مِنْ أذْرِعَاتٍ وأهْلُها بَيْثربَ أدنى دَارِهَا نَظَرٌ عالي

ومنهم من لا ينوّن أذرعات ، وكذلك عانات ، وهو مكان .

وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما انصرفت عرفات لأنهن على جماع مؤنث بالتاء . قال : وكذلك ما كان من جماع مؤنث بالتاء ، ثم سمّيتْ به رجلاً أو مكانا أو أرضا أو امرأة انصرفت .

قال : ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا ، ثم تجعله بعد ذلك واحدا .

وقال آخرون منهم : ليست عرفات حكاية ، ولا هي اسم منقول ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه بعرفات ، ثم سميت بها البقعة اسم للموضع ، ولا ينفرد واحدها . قال : وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع ، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء . قال : ولذلك نصبت العرب التاء في ذلك لأنه موضع ، ولو كان محكيا لم يكن ذلك فيه جائزا ، لأن من سمى رجلاً مسلمات أو بمسلمين لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل ، فلذلك خالف عانات وأذرعات ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية .

واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات عرفات فقال بعضهم : قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده ، فقال : قد عرفت ، فسميت عرفات بذلك . وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة ، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وأرض سباسب ، فتجمع بما حولها . ذكر من قال ذلك :

3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ، قال : لما أذّن إبراهيم في الناس بالحج ، فأجابوه بالتلبية ، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها فخرج ، فلما بلغ الشجرة عند العقبة ، استقبله الشيطان يردّه ، فرماه بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة . فطار فوقع على الجمرة الثانية ، فصدّه أيضا ، فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر فلما رأى أنه لا يطيقه ، ولم يدر إبراهيم أين يذهب ، انطلق حتى أتى ذا المجاز ، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز ، فلذلك سمي ذا المجاز . ثم انطلق حتى وقع بعرفات فلما نظر إليها عرف النعت ، قال : قد عرفتُ ، فسمي عرفات . فوقف إبراهيم بعرفات ، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع ، فسميت المزدلفة ، فوقف بجمع .

3حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سليمان التيمي ، عن نعيم بن أبي هند ، قال : لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات ، قال : عرفت ، فسميت عرفات لذلك .

3حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال ابن المسيب : قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحجّ به ، فلما أتى عرفة قال : قد عرفت ، وكان قد أتاها مرّة قبل ذلك ، ولذلك سميت عرفة .

وقال آخرون : بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها . ذكر من قال ذلك :

3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن مسلم القرشي ، عن أبي طِهفة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن عباس قال : إنما سميت عرفات ، لأن جبريل عليه السلام ، كان يقول لإبراهيم : هذا موضع كذا ، وهذا موضع كذا ، فيقول : قد عرفت ، فلذلك سميت عرفات .

3حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء قال : إنما سميت عرفة أن جبريل كان يُرِي إبراهيم عليهما السلام المناسك ، فيقول : عرفتُ عرفت ، فسمي عرفات .

3حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن زكريا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس : أصل الجبل الذي يلي عُرَنة وما وراءه موقف حتى يأتي الجبل جبل عرفة . وقال ابن أبي نجيح : عرفات : النّبْعة والنّبَيْعَة وذات النابت ، وذلك قول الله : فإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ وهو الشعب الأوسط .

وقال زكريا : ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة ، فهو من عرفة ، وما دبَر ذلك الجبل فليس من عرفة .

وهذا القول يدلّ على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص .

وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال : هو اسم لواحد سمي بجماع ، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلاً ، وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة ، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف .

القول في تأويل قوله تعالى : { فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : فإذَا أفَضْتُمْ فكررتم راجعين من عرفة إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه فاذْكُرُوا اللّهَ يعني بذلك الصلاة ، والدعاء عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ . وقد بينا قبل أن المشاعر هي المعالم من قول القائل : شعرت بهذا الأمر : أي علمت ، فالمشعر هو المَعْلَم ، سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحجّ وفروضه التي أمر الله بها عباده . وقد :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن زكريا ، عن ابن أبي نجيح ، قال : يستحبّ للحاج أن يصلي في منزله بالمزدلفة إن استطاع ، وذلك أن الله قال : فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كما هَدَاكُمْ .

فأما المشعر فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مَأزِمي عرفة إلى محسر ، وليس مأزما عرفة من المشعر .

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السريّ قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع فقال : أيها الناس إن جمعا كلها مشعر .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله : فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ قال : هو الجبل وما حوله .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن ابن عباس قال : ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا الثوري ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، وحدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألته عن المشعر الحرام فقال : ما بين جبلي المزدلفة .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال : المشعر الحرام : المزدلفة كلها . قال معمر : وقاله قتادة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، قال : أنبأنا الثوري ، عن السدي ، عن سعيد بن جبير : فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ قال : ما بين جبلي المزدلفة هو المشعر الحرام .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا أبي ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام ، فقال : إذا انطلقت معي أعلمتكه . قال : فانطلقت معه ، فوقفنا حتى إذا أفاض الإمام سار وسرنا معه ، حتى إذا هبطت أيدي الركاب ، وكنا في أقصى الجبال مما يلي عرفات قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ أخذت فيه ، قلت : ما أخذت فيه ؟ قال : كلها مشاعر إلى أقصى الحرم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأوديّ ، قال : سألت عبد الله بن عمر ، عن المشعر الحرام . قال : إن تلزمني أركه . قال : فلما أفاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال ، قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ قال : قلت : ها أنا ذاك ، قال : أخذتَ فيه ، قلت : ما أخذت فيه ؟ قال : حين هبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال فهو مشعر إلى مكة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن عمارة بن زاذان ، عن مكحول الأزدي ، قال : سألت ابن عمر يوم عرفة عن المشعر الحرام ؟ فقال : الْزَمْني فلما كان من الغد وأتينا المزدلفة ، قال : أين السائل عن المشعر الحرام ؟ هذا المشعر الحرام .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : المشعر الحرام : المزدلفة كلها .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، قال : أخبرنا داود ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أين المزدلفة ؟ قال : إذا أفضت من مأزِمي عرفة ، فذلك إلى محسّر . قال : وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة ، ولكنّ مفاضاهما . قال : قف بينهما إن شئت ، وأحبّ إليّ أن تقف دون قُزَح ، هلمّ إلينا من أجل طريق الناس .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح ، فقال علام يزدحم هؤلاء كل ما ههنا مشعر .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المشعر الحرام المزدلفة كلها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فإذَا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وذلك ليلة جمع . قال قتادة : كان ابن عباس يقول : ما بين الجبلين مشعر .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : المشعر الحرام هو ما بين جبال المزدلفة ، ويقال : هو قرن قزح .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وهي المزدلفة ، وهي جمع .

وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما :

حدثنا به هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، قال : لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، قال : سمعت سعيد بن جبير يقول : المشعر الحرام : ما بين جبلي مزدلفة .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عمر عن المشعر الحرام ؟ فقال : ما أدري ، وسألت ابن عباس ، فقال : ما بين الجبلين .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل : عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الجبيل وما حوله مشاعر .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ثوير ، قال : وقفت مع مجاهد على الجبيل ، فقال : هذا المشعر الحرام .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، الجبيل وما حوله مشاعر .

وإنما جعلنا أول حدّ المشعر مما يلي منى منقطع وادي محسر مما يلي المزدلفة ، لأن المثنى ، حدثني قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «عَرَفَةُ كُلّها مَوْقِفٌ إلا عُرَنَةَ ، وَجمْعٌ كُلّها مَوْقِفٌ إلا مُحَسّرا » .

حدثني يعقوب ، قال : ثني هشيم ، عن حجاج ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبد الله بن الزبير ، أنه قال : كل مزدلفة موقف إلا وادي محسر .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن حجاج ، قال : أخبرني من سمع عروة بن الزبير يقول مثل ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن هشام بن عروة ، قال : قال عبد الله بن الزبير في خطبته : تَعَلّمُنّ أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ، تعلّمُنّ أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر .

غير أن ذلك وإن كان كذلك فإني أختار للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام على قزح وما حوله ، لأن أبا كريب حدثنا ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن عبد الرحمن بن الحرث المخزومي ، عن زيد بن عليّ ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن عليّ قال : لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، غدا فوقف على قزح ، وأردف الفضل ، ثم قال : «هذا المَوْقِفُ ، وكل مُزْدِلفة مَوْقِفٌ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ، عن عبد الرحمن بن الحرث ، عن زيد بن عليّ بن الحسين ، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .

حدثنا هناد وأحمد الدولابي ، قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن المنكدر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الحويرث ، قال : رأيت أبا بكر واقفا على قزح وهو يقول : أيها الناس أصبحوا أيها الناس أصبحوا ثم دفع .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عبد الله بن عثمان ، عن يوسف بن ماهك ، حججت مع ابن عمر ، فلما أصبح بجمع صلى الصبح ، ثم غدا وغدونا معه حتى وقف مع الإمام على قزح ، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته .

وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بالمزدلفة : «هذا كله مشاعر إلى مكة » ، فإن معناه أنها معالم من معالم الحج ينسك في كل بقعة منها بعض مناسك الحجّ ، لا أن كل ذلك المشعر الحرام الذي يكون الواقف حيث وقف منه إلى بطن مكة قاضيا ما عليه من الوقوف بالمشعر الحرام من جمع .

وأما قول عبد الرحمن بن الأسود : «لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام » فلأنه يحتمل أن يكون أراد : لم أجد أحدا يخبرني عن حدّ أوله ومنتهى آخره على حقه وصدقه لأن حدود ذلك على صحتها حتى لا يكون فيها زيادة ولا نقصان لا يحيط بها إلا القليل من أهل المعرفة بها ، غير أن ذلك وإن لم يقف على حدّ أوله ومنتهى آخره وقوفا لا زيادة فيه ولا نقصان إلا من ذكرت ، فموضع الحاجة للوقوف لا خفاء به على أحد من سكان تلك الناحية وكثير من غيرهم ، وكذلك سائر مشاعر الحجّ والأماكن التي فرض الله عز وجل على عباده أن ينسكوا عندها كعرفات ومنى والحرم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرُوهُ كمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضالّينَ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه ، والشكر له على أياديه عندكم ، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره ، والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق ، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحقّ وبعد الضلالة كذكره إياكم بالهدى ، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها ، فنجاكم منها . وذلك هو معنى قوله : كمَا هَدَاكُمْ .

وأما قوله : وَإنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالّينَ فإن من أهل العربية من يوجه تأويل «إن » إلى تأويل «ما » ، وتأويل اللام التي في «لَمِنَ » إلى «إلا » .

فتأويل الكلام على هذا المعنى : وما كنتم من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه إلا من الضالين . ومنهم من يوجه تأويل «إن » إلى «قد » ، فمعناه على قول قائل هذه المقالة : واذكروا الله أيها المؤمنون كما ذكركم بالهدى ، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل ، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالاً لما كان عليه المشركون ، إذ كانوا يرون التجارة للمُحْرم بالحج حراماً .

فالفضل هنا هو المال ، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } [ المزمل : 20 ] . وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة :

كادَتْ تُسَاقِطُني رَحْلي ومِيثَرَتِي *** بذِي المجاز ولم تُحسس به نَغَما{[180]}

من صَوْتِ حِرْمِيَّةٍ قالتْ وقد ظعنوا *** هل في مُخِفِّيكُمُ مَنْ يشتري أَدَما

قلتُ لهَا وهي تَسْعَى تحتَ لَبَّتِهــا *** لا تَحْطِمنَّكِ إن البيـعَ قد زَرِما

أي انقطع البيع وحَرُم ، وعن ابن عباس : كانت عكاظ ومَجَنَّة ، وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأَثَّمُوا أنْ يَتَّجِرُوا في المواسم فنزلت : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في موسم الحج ) اهـ . أي قرأها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج .

وقد كانت سوق عكاظ تفتح مستهل ذي القعدة وتدوم عشرين يوماً وفيها تباع نفائس السلع وتتفاخر القبائل ويتبارى الشعراء ، فهي أعظم أسواق العرب وكان موقعها بين نَخْلَةَ والطائف ، ثم يخرجون من عكاظ إلى مَجِنَة ثم إلى ذي المَجاز ، والمظنون أنهم يقضون بين هاتين السوقين بقية شهر ذي القعدة ؛ لأن النابغة ذكر أنه أقام بذي المجاز أربع ليال وأنه خرج من ذي المجاز إلى مكة فقال يذكر راحلته :

باتَت ثلاثَ ليالٍ ثم واحِدَةً *** بذي المجاز تُراعِي مَنْزِلاً زِيَمَا

ثم ذكر أنه خرج من هنالك حاجّاً فقال :

* كادَتْ تُساقِطني رَحْلي ومِيثَرَتِي *

الفاء عاطفة على قوله : { فلا رفث ولا فسوق } [ البقرة : 197 ] الآية ، عطف الأمر على النهي ، وقوله : ( إذا أفضتم ) شرط للمقصود وهو : ( فاذكروا الله ) .

والإفاضة هنا : الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسالَ ؛ ولذلك سموا إحالة القِداح في المَيْسر إفَاضَةً والمجيلَ مُفيضاً ، لأنه يُخْرِج القِدَاح من الرِّبَابَة بقوة وسرعة أي بدون تَخَيُّر ولا جَسٍّ لينظر القدح الذي يخرج ، وسمَّوا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة ، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة .

والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدَّفْع ، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة ، وكلا الإطلاقين مجاز ؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة ، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين ؛ لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة . ولأن في تجنُّب دَفَعْتُم تجنباً لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفعِ بعض الناس بعضاً ؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضَوْضَاء وجلبة وسرعةَ سير فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حجة الوداع وقال :

" ليس البِرُّ بالإيضَاع فإذا أفضتم فعليكم بالسَّكينة والوَقَار " .

و ( عرفات ) اسم واد ويقال : بطن وهو مَسِيلٌ متَّسع تنحدر إليه مياه جبال تحيط به تعرف بجبال عرفة بالإفراد ، وقد جُعل عرفات علَمَاً على ذلك الوادي بصيغة الجمع بألفٍ وتاء ، ويقال له : عرفة بصيغة المفرد ، وقال الفرّاء : قول الناس يومُ عَرفة مولَّد ليس بعربي محْضٍ ، وخالفه أكثر أهل العلم فقالوا : يقال عرفات وعرفة ، وقد جاء في عدة أحاديث « يوم عرفة » ، وقال بعض أهل اللغة : لا يقال : يوم عرفات .

وفي وسط وادي عرفة جُبيل يقف عليه ناس ممن يقفون بعرفة ويخطب عليه الخطيب بالناس يوم تاسع ذي الحجة عند الظهر ، ووقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم راكباً يوم عرفة ، وبُني في أعلى ذلك الجبيل عَلَم في الموضع الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام فيقف الأئمة يوم عرفة عنده .

ولا يُدرَى وجه اشتقاقٍ في تسمية المكان عَرَفات أو عَرَفة ، ولا أنه علم منقول أو مرتجل ، والذي اختارَه الزمخشري وابنُ عطية أنه علم مرتجل ، والذي يظهر أن أحد الاسمين أصل والآخر طارىء عليه وأن الأصل ( عرفات ) من العربية القديمة وأن عرفة تخفيف جرى على الألسنة ، ويحتمل أن يكون الأصل ( عرفة ) وأن عرفات إشباع من لغة بعض القبائل .

وذكر ( عرفات ) باسمه في القرآن يشير إلى أن الوقوف بعرفة رُكن الحج وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " .

سمي الموضع عرفات الذي هو على زنة الجمع بألففٍ وتاء فعاملوه معاملة الجمع بألفٍ وتاء ولم يمنعوه الصرف مع وجود العلمية . وجمع المؤنث لا يُمنع من الصرف ؛ لأن الجمع يزيل ما في المفرد من العلمية ؛ إذ الجمع بتقدير مُسَمَّيَات بكذا ، فما جُمع إلاّ بعدَ قصدِ تنكيره ، فالتأنيث الذي يمنع الصرف مع العلمية أو الوصفية هو التأنيث بالهاء .

وذكر الإفاضة من ( عرفات ) يقتضي سبق الوقوف به ؛ لأنه لا إفاضة إلاّ بعد الحُلول بها ، وذِكر ( عرفات ) باسمه تنويه به يدل على أن الوقوف به ركن فلم يُذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة ، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان ، خلافاً لأبي حنيفة في الصفا والمروة ، ويؤخذ ركن الإحرام من قوله : { فمن فرض فيهن الحج } [ البقرة : 197 ] ، وأما طواف الإفاضة فثبت بالسنة وإجماع الفقهاء .

و ( من ) ابتدائية .

والمعنى فإذا أفضتم خارجين من عرفات إلى المزدلفة .

والتصريح باسم ( عرفات ) في هذه الآية للرد على قريش ؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في ( جَمْع ) وهو المزدلفة ؛ لأنهم حُمْس ، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم ، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة ، لأن عرفة من الحل كما سيأتي ، ولهذا لم يذكر الله تعالى المزدلفة في الإفاضة الثانية باسمها وقال : { مِنْ حيثُ أَفَاضَ الناسُ } لأن المزدلفة هو المكان الذي يفيض منه الناس بعد إفاضة عرفات ، فذلك حوالة على ما يعلمونه .

و ( المشعر ) اسم مشتق من الشعور أي العِلْم ، أو من الشِّعَار أي العَلاَمة ، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية ، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء فيدركهم غبسُ ما بعد الغروب وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت .

ووصف المشعر بوصف ( الحَرام ) لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات .

والمشعر الحرام هو ( المزدلفة ) ، سميت مزدلفة لأنها ازدلفت من مِنَى أي اقتربت ؛ لأنهم يبيتون بها قاصدين التصبيح في مِنى . ويقال للمزدلفة أيضاً ( جَمْع ) لأن جميع الحجيج يجتمعون في الوقوف بها ، الحُمْس وغيرُهم من عهد الجاهلية ، قال أبو ذؤيب :

فبَاتَ بجَمْعٍ ثم راح إلى منًى *** فأصبح رَاداً يبتغي المَزْجَ بالسَّحْل{[181]}

فمن قال : إن تسميتها جمعاً لأنها يُجْمع فيها بين المغرب والعشاء فقد غفل عن كونه اسماً من عهد ما قبل الإسلام .

وتسمى المزدلفة أيضاً ( قُزَح ) بقاف مضمومة وزاي مفتوحة ممنوعاً من الصرف ، باسم قرن جبل بين جبالٍ من طَرَف مزدلفة ويقال له : المِيقَدَة لأن العرب في الجاهلية كانوا يُوقدون عليه النيران ، وهو موقف قريش في الجاهلية ، وموقفُ الإمام في المزدلفة على قُزح . روى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجَمْع أتى قُزَحَ فوقف عليه وقال : هذا قُزَح وهو الموقف وجَمْعُ كلها موقف .

ومذهب مالك أن المبيت سنة وأما النزول حصةً فواجب . وذهب علقمة وجماعة من التابعين والأوزاعي إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن من الحج فمن فاته بطل حجه تمسكاً بظاهر الأمر في قوله { فاذكروا الله } .

وقد كانت العرب في الجاهلية لا يفيضون من عرفة إلى المزدلفة حتى يجيزهم أحد ( بني صُوفَة ) وهم بنو الغوث بن مُر بن أدِّ بن طابخة بن إلياس بن مُضر وكانت أمهُ جرهمية ، لقب الغوث بصُوفَة ؛ لأن أمه كانت لا تلد فنذرت إنْ هي ولدت ذكراً أن تجعله لخدمة الكعبة فولدت الغوث وكانوا يجعلون صوفةً يَربطون بها شعر رأس الصبي الذي ينذرونه لخِدمة الكعبة وتسمى الرَّبيِطَ ، فكان الغوْث يلي أمر الكعبة مع أخواله من جرهم فلما غلب قصَي بن كِلاب على الكعبة جعل الإجازة للغَوْث ثم بَقيت في بنيه حتى انقرضوا ، وقيل إن الذي جعل أبناء الغَوْث لإجازة الحَاجِّ هم ملوك كندة ، فكان الذي يجيز بهم من عرفة يقول :

لاَ هُمَّ إِني تَابِع تباعَهْ *** إن كان إثْمٌ فعلَى قُضاعهْ

لأن قضاعة كانت تُحل الأشهر الحرم ، ولما انقرض أبناء صوفة صارت الإجازة لبني سعد بن زيد مناءة بن تميم ورثوها بالقُعدد فكانت في آل صَفْوان منهم وجاء الإسلام وهي بيد كَرب بن صفوان قال أوس بن مَغْراء :

لاَ يَبْرَحُ الناسُ ما حَجُّوا مُعَرَّفَهُم *** حَتَّى يُقَالَ أجيزوا آل صفوانَا

الواو عاطفة على قوله : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } والعطف يقتضي أن الذكر المأمور به هنا غير الذكر المأمور به في قوله : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } فيكون هذا أمراً بالذكر على العموم بعد الأمر بذكر خاص فهو في معنى التذييل بعد الأمر بالذكر الخاص في المشعر الحرام .

ويجوز أن يكون المراد من هذه الجملة هو قوله : { كما هداكم } فموقعها موقع التذييل . وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف بل تُفْصَل وعدل عن مقتضى الظاهر فعطفت بالواو باعتبار مغايرتها للجملة التي قبلها بما فيها من تعليل الذكر وبيانِ سببه وهي مغايَرةٌ ضعيفة لكنها تصحح العطف كما في قول الحارث بن همام الشيباني :

أيا ابْنَ زَيَّابَةَ إِنْ تَلْقَني *** لا تلقني في النَّعَم العَازِب

وتَلْقَني يشتَدُّ بي أَجْرَدٌ *** مُسْتَقْدِم البِرْكَة كالراكـب

فإن جملة تلقني الثانية هي بمنزلة بدَل الاشتمال من لا تلقني في النعم العازب لأن معناه لا تلقني راعيَ إبل وذلك النفي يقتضي كونه فارساً ؛ إذ لا يخلو الرجل عن إحدى الحالتين فكان الظاهر فصل جملة تلقني تشتد بي أجرد لكنه وصلها لمغايرةٍ مَّا .

وقوله : { كما هداكم } تشبيه للذكر بالهدى وما مصدرية . ومعنى التشبيه في مثل هذا المشابهةُ في التساوي أي اذكروه ذكراً مساوياً لهدايته إياكم فيفيد معنى المجازاة والمكافأَة فلذلك يقولون إن الكاف في مثله للتعليل وقد تقدم الفرق بينها وبين كاف المجازاة عند قوله تعالى : { فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا } [ البقرة : 167 ] وكثر ذلك في الكاف التي اقترنت بها ( ما ) كيف كانت ، وقيل ذلك خاص بما الكافة والحق أنه وارد في الكاف المقترنة بما وفي غيرها .

وضمير { من قبله } يرجع إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية و« إنْ » مخففة . من إنَّ الثقيلة . والمراد ضلالهم في الجاهلية بعبادة الأصنام وتغيير المناسك وغير ذلك .


[180]:الضمائر الثلاثة المستترة في الأفعال في هذا البيت عائدة إلى الراحلة المذكورة في أبيات قبله.
[181]:- من أبيات يصف فيها رجلا في الحج طلب أن يشتري عسلا من منى والراد الطالب، والمزج من أسماء العسل، والسحل النقد وأطلقه في البيت على الدراهم المنقودة من الوصف بالمصدر.