تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوَاْ أَتَتّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه ، فقال لهم : واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي ، إذ قال موسى لقومه ، وقومه بنو إسرائيل ، إذ ادّارءوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزؤا .
والهزو : اللعب والسخرية ، كما قال الراجز :
قَدْ هَزِئَتْ مِنّي أُمّ طَيْسَلَهْ *** قالَتْ أرَاهُ مُعْدِما لا شَيْءَ لَهْ
يعني بقوله : قد هزئت : قد سخرت ولعبت . ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي هزو أو لعب . فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه أنه هازىء لاعب ، ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبيّ الله ، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة ، وحذفت الفاء من قوله : أتَتّخِذُنا هُزُوا وهو جواب ، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه ، وحسن السكوت على قوله : إنّ اللّهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، فجاز لذلك إسقاط الفاء من قوله : أتَتّخِذُنا هُزُوا كما جاز وحسن إسقاط من قوله تعالى : قالَ فَما خَطْبُكُمْ أيّها المُرْسَلُونَ قالُوا إنّا أُرْسِلْنا ولم يقل : فقالوا إنا أرسلنا ، ولو قيل : «فقالوا » ، كان حسنا أيضا جائزا ، ولو كان ذلك على كلمة واحدة لم تسقط منه الفاء وذلك أنك إذا قلت قمت وفعلت كذا وكذا ولم تقل : قمت فعلت كذا وكذا ، لأنها عطف لا استفهام يوقف عليه ، فأخبرهم موسى إذ قالوا له ما قالوا إن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية من الجاهلين ، وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك ، فقال : أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل . وكان سبب قيل موسى لهم : إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ما :
حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : كان في بني إسرائيل رجل عقيم أو عاقر ، قال : فقتله وليه ، ثم احتمله ، فألقاه في سبط غير سبطه . قال : فوقع بينهم فيه الشرّ ، حتى أخذوا السلاح . قال : فقال أولو النّهَى : أتقتتلون وفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فأتوا نبيّ الله ، فقال : اذبحوا بقرة فقالوا : أتَتّخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجَاهِلينَ قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنُ لَنا ما هي قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة إلى قوله : فَذَبَحُوهَا وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قال : فضُرب فأخبرهم بقاتله . قال : ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا . قال : ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم ، فلم يورث قاتل بعد ذلك .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثني أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قول الله إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة قال : كان رجل من بني إسرائيل ، وكان غنيا ولم يكن له ولد ، وكان له قريب وكان وارثه ، فقتله ليرثه ، ثم ألقاه على مجمع الطريق ، وأتى موسى ، فقال له : إن قريبي قتل ، وأتى إليّ أمرٌ عظيم ، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبيّ الله . قال : فنادى موسى في الناس : أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا فلم يكن عندهم علمه ، فأقبل القاتل على موسى فقال : أنت نبيّ الله ، فاسأل لنا ربك أن يبين لنا فسأل ربه فأوحى الله إليه : إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فعجبوا وقالوا : أتَتّخِذُنا هُزُوا قالَ أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّه يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة لا فارِض يعني هرمة وَلا بكْر يعني ولا صغيرة عَوَان بينَ ذلكَ أي نصف بين البكر والهرمة ، قالُوا ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُبَيّنْ لَنا ما لَوْنُها قال إنهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَة صَفْرَاءُ فاقِع لَوْنُها أي صاف لونها تَسُرّ النَاظِرِينَ أي تعجب الناظرين . قالُوا ادْعُ لَنا رَبكَ يُبَيّنْ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنَا وَإنَا إنْ شاءَ الله لمهتدون قال إنه يقول أنها بقرة لا ذلول ، أي لم يذللها العمل ، تثير الأرض يعني ليست بذلول فتثير الأرض ولا تسقي الحرث يقول ولا تعمل في الحرث مسلمة يعني مسلمة من العيوب لاشية فيها . يقول لا بياض فيها . قالُوا الاَنَ جِئْتَ بالحَقّ فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ . قال : ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ، ولكنهم شددوا على أنفسهم ، فشدّد الله عليهم . ولولا أن القوم استثنوا فقالوا إنا إن شاء الله لمهتدون لما هدوا إليها أبدا فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى وهي القيمة عليهم فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة وأنها سألتهم أضعاف ثمنها ، فقال لهم موسى : إن الله قد كان خفف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها ففعلوا واشتروها فذبحوها ، فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان ، فأخذوا قاتله وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه فقتله الله على أسوء عمله .
حدثني موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي : وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، قال : كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال ، وكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج . فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوّجه إياها ، فغضب الفتى وقال : والله لأقتلنّ عمي ولاَخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته ولاَكلنّ ديته فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل ، فقال : يا عم انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلي أصيب منها ، فإنهم إذا رأوك معي أعطوني . فخرج العم مع الفتى ليلاً ، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله . فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه ، كأنه لا يدري أين هو فلم يجده ، فانطلق نحوه فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه ، فأخذهم وقال : قتلتم عمي فأدّوا إليّ ديته . وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي واعماه . فرفعهم إلى موسى ، فقضى عليهم بالدية ، فقالوا له : يا رسول الله : ادع لنا حتى يتبين له من صاحبه فيؤخذ صاحب الجريمة ، فوالله إن ديته علينا لهينة ، ولكنا نستحي أن نعير به . فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسا فادّارَأتُمْ فيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فقال لهم موسى : إنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالوا : نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة ، أتهزأ بنا ؟ قال موسى : أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ . قال : قال ابن عباس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنهم شدّدوا وتعنتوا موسى ، فشدد الله عليهم فقالوا : ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَيّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بينَ ذلكَ والفارض : الهرمة التي لا تلد ، والبكر : التي لم تلد إلا ولدا واحدا ، والعوان : النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها فافعلوا ما تؤمرون . قالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَيّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرّ النّاظِرِينَ قال : تعجب الناظرين : قالُوا ادْعُ لَنا رَبّكَ يُبَيّنُ لَنا ما هِيَ إنّ البَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإنّا إنْ شاءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إنّهُ يَقُولُ إنّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها من بياض ولا سواد ولا حمرة . قالُوا الاَنَ جِئْتَ بالحَقّ فطلبوها فلم يقدروا عليها . وكان رجل من بني إسرائيل من أبرّ الناس بأبيه . وأن رجلاً مرّ به معه لؤلؤ يبيعه ، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح ، فقال له الرجل : تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا ؟ فقال له الفتى : كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا . فقال له الاَخر : أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا . فجعل التاجر يحطّ له حتى بلغ ثلاثين ألفا ، وزاد الاَخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه حتى بلغ مائة ألف . فلما أكثر عليه قال : لا والله لا أشتريه منك بشيء أبدا ، وأبى أن يوقظ أباه . فعوّضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة ، فمرّت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة ، فأبصروا البقرة عنده ، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى ، فأعطوه ثنتين فأبى ، فزادوه حتى بلغوا عشرا فأبى ، فقالوا : والله لا نتركك حتى نأخذها منك . فانطلقوا به إلى موسى ، فقالوا : يا نبيّ الله إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبى أن يعطيناها ، وقد أعطيناه ثمنا . فقال له موسى : أعطهم بقرتك فقال : يا رسول الله أنا أحقّ بمالي . فقال : صدقت ، وقال للقوم : أرضوا صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فأبى ، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها حتى أعطوه وزنها عشر مرّات ، فباعهم إياها وأخذ ثمنها . فقال : اذبحوها فذبحوها ، فقال : اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش ، فأسلوه : من قتلك ؟ فقال لهم : ابن أخي قال : أقتله وآخذ ماله وأنكح ابنته . فأخذوا الغلام فقتلوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد ، عن مجاهد . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : حدثني خالد بن يزيد ، عن مجاهد . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل ، عن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يذكر . وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، وحجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس . وحدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : أخبرني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس . فذكر جميعهم : أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى : إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي . غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى كان أخا المقتول . وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه . وقال بعضهم : بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته . إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه عن أمر الله إياهم بذلك ، فقالوا له : وما ذبح البقرة يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل فادعى على بعضنا أنه القاتل أتهزأ بنا ؟ كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قتل قتيل من بني إسرائيل ، فطرح في سبط من الأسباط . فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط ، فقالوا : أنتم والله قتلتم صاحبنا قالوا : لا والله . فأتوا موسى ، فقالوا : هذا قتيلنا بين أظهرهم وهم والله قتلوه . فقالوا : لا والله يا نبيّ الله طرح علينا . فقال لهم موسى : إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فقالوا : أتستهزىء بنا ؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه : أتَتّخِذُنا هُزُوا قالوا : نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه فتستهزىء بنا ؟ فقال موسى : أعُوذُ بالله أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وحجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس : لما أتى أولياء القتيل والذين ادّعوا عليهم قتل صاحبهم موسى وقصوا قصتهم عليه ، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتّخِذُنَا هُزُوا قالَ أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ قالوا : وما البقرة والقتيل ؟ قال : أقول لكم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، وتقولون : أتتخذنا هزوا
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 67 )
وقوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } الآية( {[757]} ) : { إذ } عطف على ما تقدم ، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق ، وقرأ أبو عمرو «يأمرْكم » بإسكان الراء ، وروي عنه اختلاس الحركة ، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم »( {[758]} ) .
وسبب هذه الآية على ما روي ، أن رجلاً من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال ، فاستبطأ ابن أخيه موته ، وقيل أخوه ، وقيل ابنا عمه ، وقيل ورثة كثير غير معينين ، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه ، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه ، وقيل : كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين ، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين ، وهي التي لم يقتل فيها ، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً ، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها ، فأنكروا قتله ، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء( {[759]} ) حتى دخلوا في السلاح ، فقال أهل النهي منهم : أنقتل ورسول الله معنا ؟ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة ، وسألوه البيان ، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها ، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، فكان جوابهم أن قالوا : { أتتخذنا هزواً } ؟ .
قرأ الجحدري «أيتخذنا » بالياء ، على معنى أيتخذنا الله( {[760]} ) ، وقرأ حمزة : «هزْؤاً » بإسكان الزاي والهمز ، وهي لغة ، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز ، وقرأ أيضاً : دون همز «هزواً » ، حكاه أبو علي ، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاء والهمزة بين بين ، وروي عن أبي جعفر وشيبة( {[761]} ) ضم الهاء وتشديد الزاي «هُزّاً » ، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله ، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته ، وقال : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، { أتتخذنا هزواً } ، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره ، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل( {[762]} ) للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين : «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله » ، وكما قال له الآخر : «اعدل يا محمد » ، وكلٌّ محتمل( {[763]} ) ، والله أعلم .
تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الامتثال وإما لبعد أفهامهم عن مقصد الشارع ورومهم التوقيف على ما لاقصد إليه . قيل : إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى : { وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها } [ البقرة : 72 ] الآية وإن قول موسى : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ناشىء عن قتل النفس المذكورة ، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤاً والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم ، هكذا ذكر صاحب « الكشاف » والموجهون لكلامه ، ولا يخفى أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله : { وإذ } مع بقاء الترتيب ، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بنحو قوله : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وقوله : { وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] .
فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني ( تثنية ) في الإصحاج 21 أنه « إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجُر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بني لاوى فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم » اهـ . هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح أهو إضاعة ذلك الدم باطلاً أم هو عند تعذر معرفة المتهم بالقتل ؟ وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جُهل قاتلها وهي المشار إليها هنا ، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس . وبذلك يظهر وجه ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعاً سيق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها ، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيماناً ولذلك ختمت بقوله :
{ ويريكم آياته لعلكم تعقلون } [ البقرة : 73 ] وأتبعت بقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] .
والتأكيد في قوله : { إن الله يأمركم } حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع في العربية لوقع مؤكداً بإنَّ .
وقولهم : { تتخذنا هزؤاً } استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل كاللعب و { تتخذنا } بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى : { أتتخذ أصناماً آلهة } في سورة الأنعام ( 74 ) .
والهزؤ بضم الهمزة والزاي وبسكون الزاي مصدر هزأ به هزءاً وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق .
وقرأ الجمهور { هزؤًا } بضمتين وهمز بعد الزاي وصلاً ووقفاً ، وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلاً ، ووقف عليه بتخفيف الهمز واواً وقد رسمت في المصحف واواً ، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف الهمز واواً في الوصل والوقف .
وقول موسى : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } تبرؤٌ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح لأن في الهزؤِ مزحاً مع استخفاف واحتقار للمزوح معه على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة ، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه موسى بأنه نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه ، وبالغ في التنزه بقوله { أعوذ بالله } أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى . وصيغة { أن أكون من الجاهلين } أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل كما سيأتي في سورة الأنعام ( 56 ) عند قوله : { وما أنا من المهتدين } .
والجهل ضد العلم وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب ، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن الثاني قول الحماسي : فليس سواء عالم وجهول . . . وقول النابغة : وليس جاهل شيء مثل من علما . . .