تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغۡفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجۡزِيَ قَوۡمَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (14)

وقوله : { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } أي : يصفحوا عنهم ويحملوا{[26311]} الأذى منهم . وهذا كان في ابتداء الإسلام ، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ، ليكون ذلك لتأليف قلوبهم{[26312]} ، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد . هكذا روي عن ابن عباس ، وقتادة .

وقال مجاهد [ في قوله ]{[26313]} { لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } لا يبالون{[26314]} نعم الله .

وقوله : { لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : إذا صفحوا{[26315]} عنهم في الدنيا ، فإن الله مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة ؛ ولهذا قال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }


[26311]:- (2) في أ: "ويحتملوا".
[26312]:- (3) في ت، م، أ: "كالتأليف لهم".
[26313]:- (4) زيادة من أ.
[26314]:- (5) في أ: "ينالون".
[26315]:- (6) في أ: "أي اصفحوا".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغۡفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجۡزِيَ قَوۡمَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للذين صدّقوا الله واتبعوك ، يغفروا للذين لا يخافون بأس الله ووقائعه ونقمه إذا هم نالوهم بالأذى والمكروه لِيَجْزِيَ قَوْما بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ يقول : ليجزي الله هؤلاء الذين يؤذونهم من المشركين في الاخرة ، فيصيبهم عذابه بما كانوا في الدنيا يكسبون من الإثم ، ثم بأذاهم أهل الإيمان بالله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْما بِمَا كانُوا يَكْسِبونَ قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه ، وكانوا يستهزئون به ، ويكذّبونه ، فأمره الله عزّ وجلّ أن يقاتل المشركين كافّة ، فكان هذا من المنسوخ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : لا يُبالون نِعم الله ، أو نِقم الله .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا يَرْجونَ أيّامَ اللّهِ قال : لا يُبالون نِعم الله ، وهذه الاية منسوخة بأمر الله بقتال المشركين . وإنما قُلنا : هي منسوخة لإجماع أهل التأويل على أن ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك : وقد ذكرنا الرواية في ذلك عن ابن عباس .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : نسختها ما في الأنفال : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ ، فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ ، وفي براءة : قاتِلُوا المُشْركِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً ، أمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : نسختها فاقْتُلُوا المُشْركِينَ .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : هذا منسوخ ، أمر الله بقتالهم في سورة براءة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة عمن ذكره عن أبي صالح : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا للّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : نسختها التي في الحجّ : أُذِنَ لِلّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِمُوا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ لِلّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّامَ اللّهِ قال : هؤلاء المشركون ، قال : وقد نسخ هذا وفرض جهادهم والغلظة عليهم .

وجزم قوله : يَغْفِرُوا تشبيها له بالجزاء والشرط وليس به ، ولكن لظهوره في الكلام على مثاله ، فعرّب تعريبه ، وقد مضى البيان عنه قبل .

واختلف القرّاء في قراءة قوله : لِيَجْزِيَ قَوْما فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة والكوفة : لِيَجْزِيَ بالياء على وجه الخبر عن الله أنه يجزيهم ويثيبهم ، وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الكوفيين «لِنَجْزِيَ » بالنون على وجه الخبر من الله عن نفسه . وذُكر عن أبي جعفر القارىء أنه كان يقرأه «لِيُجْزَى قَوْما » على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، وهو على مذهب كلام العرب لحن ، إلاّ أن يكون أراد : ليجزى الجزاء قوما ، بإضمار الجزاء ، وجعله مرفوعا «لِيُجْزَى » فيكون وجها من القراءة ، وإن كان بعيدا .

والصواب من القول في ذلك عندنا أن قراءته بالياء والنون على ما ذكرت من قراءة الأمصار جائزة بأيّ تينك القراءتين قرأ القارىء . فأما قراءته على ما ذكرت عن أبي جعفر ، فغير جائزة عندي لمعنيين : أحدهما : أنه خلاف لما عليه الحجة من القرّاء ، وغير جائز عندي خلاف ما جاءت به مستفيضا فيهم . والثاني بعدها من الصحة في العربية إلاّ على استكراه الكلام على غير المعروف من وجهه .