اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغۡفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجۡزِيَ قَوۡمَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (14)

قوله تعالى : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } تقدم نظيره في سورة{[50622]} إبراهيمَ ، قال ابن عباس : رضي الله عنهما المراد بالَّذِينَ آمنوا عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه يَغْفِرُوا . لاَ يَرْجَونَ أَيَّامَ اللهِ يعني عَبْد الله بْنَ أُبَيِّ ، وذلك أنهم نزلوا في غَزَاةِ بني المصْطَلَق على بئرٍ يقال لها : المريسيع فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء ، فأبطأ عليه ، فلما أتاه ، قال له : ما حَبَسَك ؟ فقال{[50623]} : غُلام عمر قعد على طَرف البئر ، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَبَ النبي ، وقُرَبَ أبي بكر ، فقال عبد الله بن أُبَيِّ : مِثْلُنا ومِثْلُ هؤلاء إلا كما قيل : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ ، فبلغ ذَلِكَ عُمَر ، فاشتمل بسيفه ، يريد التوجه ( له ){[50624]} فأنزل الله تعالى هذه الآية .

وقال مقاتل : إنَّ رَجُلاً من بني غِفار شتم عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب ( رضي الله عنه ){[50625]} بمكَّةَ ، فهم عمر أن يَبْطِشَ به ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره بالعفو والتَّجَاوز ، وروى مَيْمُونُ بْنُ مهرانَ أَن فِنحاصَ اليهوديَّ لما نزل قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] قال : احتاجَ رَبّ محمَّد ، فسمع ذلك عُمَرُ ، فاشتمل على سيفه ، وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فردَّه . وقال القُرظِيُّ والسُّدِّيُّ : نزلت في ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذًى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رسول الله صلى الله علهي وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ثم نَسَخَتْهَا آيةُ القِتَال{[50626]} .

قال ابن الخطيب : وإنما قالوا بالنسخ ، لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يَقْتلُوا ولا يقاتِلوا ، فلما أمروا بالمقاتلة كان نسخاً . والأقرب أن يقال : إنه محمول على ترك المنازعة ، وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية{[50627]} وقوله : { لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } قال ابن عباس : لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الخالية{[50628]} وتقدير تفسير «أيام الله » عند قوله : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } [ إبراهيم : 5 ] .

قوله : { لِيَجْزِيَ قَوْماً } قرأ ابن عامر والأَخَوَانِ : لنَجْزِي{[50629]} بنون العظمة ، أي لنَجْزي نَحْنُ{[50630]} . وباقي السبعة ليَجْزِي بالياء من تحت مبنياً للفاعل ؛ أي ليجزي اللهُ . وأبو جعفر بخلاف عنه وشبيةُ وعَاصمٌ في رواية كذلك إلا أنه مبني للمفعول هذا مع نصب «قوماً »{[50631]} . وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :

أحدها : ضمير المفعول الثاني ، عاد الضمير عليه لدلالة السِّياق تقديره : ليجزي هو أي الخير قوماً والمفعول الثاني من باب أعطى ، بقوم مقام الفاعل بلا خلافٍ ، ونظيرهن : الدِّرْهَمَ أُعْطِيَ زَيْداً{[50632]} .

الثاني : أن القائم مقامه ضمير المصدر المدلول عليه بالفعل ، أي ليُجْزَى الجَزَاءَ{[50633]} . وفيه نظر ؛ لأنه لا يترك المفعول به ، ويقام المصدر ، لا سيما مع عدم التصريح به .

الثالث : أن القائم مقامه الجار والمجرور{[50634]} ، وفيه حجة للأخفش والكوفيين حيث يجيزون نيابة غير المفعول به مع وجوده وأنشدوا :

4441 . . . . . . . . . . . . . . . *** لَسُبَّ بِذَلِكَ الجِرْوِ الكِلاَبَا{[50635]}

و :

4442 لَمْ يُعْنَ بالْعَلْيَاءِ إلاَّ سَيِّدَا{[50636]} *** . . .

والبصريون لا يُجِيزُونَه .

فصل

المعنى لكي نجازي بالمغفرة قوماً يعملون الخير .

فإن قيل : ما الفائدة من تنكير «قَوْماً » مع أن المراد بهم المؤمنون المذكورون في قوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } ؟

فالجواب : أن التنكير بدل على تعظيم شأنهم ، كأنه قيل : ليجزِي قَوْماً وأَيّ قوم قوماً من شأنهم الصَّفْحُ عن السّيئات ، والتجاوز عن المؤذيات ، وتجرع المكروه ، كأنه قيل : لا تكافئوهم أنتم حتى نُكَافِئَهُمْ نحن .


[50622]:يقصد قوله: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} من الآية 31.
[50623]:في ب قال.
[50624]:سقط من ب.
[50625]:زيادة من أ.
[50626]:السابق.
[50627]:الرازي 27/263.
[50628]:السابق.
[50629]:في ب ليجزي بالياء وهو غير مراد.
[50630]:وهذه قراءة متواترة صاحب الكشف في 2/268 وانظر أيضا السبعة 594 و595، والإتحاف 390 ومعاني الفراء 3/46.
[50631]:انظر هذه القراءة في الإتحاف ومعاني الفراء السابقين وهي الأربع فوق العشر وقد ذكرها بدون نسبة الزمخشري في الكشاف 3/511.
[50632]:التبيان 1152 والدر المصون 4/834.
[50633]:الكشاف 3/511 والبحر المحيط 8/45، والبيان 2/365 ومعاني الفراء 3/46 ولم يرضه أبو البقاء في التبيان 1152 قال: "وهو بعيد".
[50634]:الدر المصون 4/834.
[50635]:عجز بيت من الوافر، نسب لجرير وليس بديوانه وصدره: فلو ولدت قفيرة جرو كلب وقفيرة ـ مصغرا ـ أم الفرزدق ـ والجرو ولد السباع، ومنها الكلب والمعنى: في الذم والتحقير. والشاهد: لسب بذلك حيث ناب الجار والمجرور، وهو بذلك عن الفاعل مع وجود المفعول وهو "الكلاب" منصوبة، وانظر الدر المصون 4/834 والخصائص 1/397 وابن يعيش 7/75، والهمع 1/162.
[50636]:رجز وهو لرؤبة وهو من الأبيات المشهورة في النحو، وقد ورد الفعل مضبوطا بالفتح فتح الياء "يعن" وعليه فلا شاهد حينئذ. والشاهد: لم يعن بالعلياء فأناب الجار والمجرور وهو بالعلياء مكان الفاعل المحذوف بدليل نصب "سيدا" وهذا حجة للكوفية والأخفش في نيابة الجار والمجرور مكان الفاعل مع وجود المفعول. قال أبو الفتح في الخصائص: "وأجاز أبو الحسن ضرب الضرب الشديد زيدا، ودفع الدفع الذي تعرف إلى محمد، وقتل القتل يوم الجمعة أخاك، ونحو هذه من المسائل، ثم قال: وهو جائز في القياس وإن لم يرد به الاستعمال" وانظر الخصائص 1/397، وابن يعيش 7/75 والهمع 2/162 وانظر البيت أيضا في اللسان (عنا) 3146 و3147 والأشموني 3/68، والتصريح 1/291 وملحقات ديوان رؤبة 173.