في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغۡفِرُواْ لِلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجۡزِيَ قَوۡمَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (14)

وحين يبلغ سياق السورة إلى هذا المقطع القوي الذي يصل قلب المؤمن بقلب هذا الوجود . ويشعره بمصدر القوة الحقيقي وهو الاهتداء إلى أسرار هذا الوجود . . عند هذا يدعو المؤمنين إلى الترفع والاستعلاء وسعة الأفق ورحابة الصدر في مواجهة الضعاف العاجزين الذين لا تتصل قلوبهم بذلك المصدر الثري الغني . كما يدعوهم إلى شيء من العطف على هؤلاء المساكين المحجوبين عن الحقائق المنيرة القوية العظيمة ؛ من الذين لا يتطلعون إلى أيام الله ، التي يظهر فيها عظمته وأسراره ونواميسه :

( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ، ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون . من عمل صالحاً فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم ترجعون ) . .

فهو توجيه كريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله . تسامح المغفرة والعفو . وتسامح القوة والاستعلاء . وتسامح الكبر والارتفاع . والواقع أن الذين لا يرجون أيام الله مساكين يستحقون العطف أحياناً بحرمانهم من ذلك النبع الفياض ، الذي يزخر بالنداوة والرحمة والقوة والثراء . نبع الإيمان بالله ، والطمأنينة إليه ، والاحتماء بركنه ، واللجوء إليه في ساعات الكربة والضيق . وحرمانهم كذلك من المعرفة الحقيقية المتصلة بصميم النواميس الكونية وما وراءها من القوى والثروات . والمؤمنون الذين يملكون كنز الإيمان وذخره ، ويتمتعون برحمته وفيضه أولى بالمغفرة لما يبدو من أولئك المحرومين من نزوات وحماقات .

هذا من جانب . ومن الجانب الآخر ، ليترك هؤلاء المؤمنون الأمر كله لله يتولى جزاء المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته . ويحسب لهم العفو والمغفرة عن المساءة في سجل الحسنات . ذلك فيما لا يظهر الفساد في الأرض ، ويعتدي على حدود الله وحرماته بطبيعة الحال :

( ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون ) . .