تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ} (98)

يقول تعالى : فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل ، بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه ، أو أكثرهم كما قال تعالى : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] ، { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ]{[14426]}-{[14427]} وفي الحديث الصحيح : " عرض علي الأنبياء ، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس ، والنبي معه الرجل والنبي معه الرجلان ، والنبي ليس معه أحد " {[14428]} ثم ذكر كثرة أتباع موسى ، عليه السلام ، ثم ذكر كثرة أمته ، صلوات الله وسلامه عليه ، كثرة سدت الخافقين الشرقي{[14429]} والغربي .

والغرض أنه لم توجد{[14430]} قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى ، إلا قوم يونس ، وهم أهل نِينَوى ، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم ، بعد ما عاينوا أسبابه ، وخرج رسولهم من بين أظهرهم ، فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به ، وتضرعوا{[14431]} لديه . واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم ، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم . فعندها رحمهم الله ، وكشف عنهم العذاب وأخروا ، كما قال تعالى : { إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } .

واختلف المفسرون : هل كُشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي ؟ أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط ؟ على قولين ، أحدهما : إنما كان ذلك في الحياة الدنيا ، كما هو مقيد في هذه الآية . والقول الثاني فيهما لقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ الصافات : 147 ، 148 ] فأطلق عليهم الإيمان ، والإيمان منقذ من العذاب الأخروي ، وهذا هو الظاهر ، والله أعلم .

قال قتادة في تفسير هذه الآية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب ، فتركت ، إلا قوم يونس ، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ، قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، وفَرّقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عَجّوا إلى الله أربعين ليلة . فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم - قال قتادة : وذكر أن قوم يونس كانوا بنينوى أرض الموصل .

وكذا روي عن ابن مسعود ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف ، وكان ابن مسعود يقرؤها : " فَهَلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ " .

وقال أبو عمران ، عن أبي الجَلْد قال : لما نزل بهم{[14432]} العذاب ، جعل يدور على رءوسهم كقطع الليل المظلم ، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا : علمنا دعاء ندعو به ، لعل الله يكشف{[14433]} عنا العذاب ، فقال : قولوا : يا حيّ حين لا حيّ ، يا محيي الموتى{[14434]} لا إله إلا أنت . قال : فكشف عنهم العذاب .

وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله .


[14426]:- في ت : "وما أرسلنا في قرية من نبي".
[14427]:- في ت : "مهتدون" وهو خطأ.
[14428]:- رواه البخاري في صحيحه برقم (5752) ومسلم في صحيحه برقم (220) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
[14429]:- في ت ، أ : "والشرقي".
[14430]:- في ت : "يوجد".
[14431]:- في ت ، أ : "وضرعوا".
[14432]:- في ت : "لما نزل بقوم يونس".
[14433]:- في ت : "أن يكشف".
[14434]:- في ت : "يا محيي الموتى يا حي".