السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ} (98)

القصة الثالثة : قصة يونس عليه السلام المذكورة بقوله تعالى : { فلولا } أي : فهلا { كانت قرية } واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها { آمنت } أي : آمن أهلها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب { فنفعها } أي : فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها { إيمانها } بأن تقبله الله تعالى منها وكشف العذاب عنها ، وقوله تعالى : { إلا قوم يونس } استثناء منقطع بمعنى لكن قوم يونس { لما آمنوا } أي : لما أخلصوا الإيمان أوّل ما رأوا آية العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله { كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } ويجوز أن يكون متصلاً ، والجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه كأنه قيل : ما آمن أهل قرية من القرى الهالكة فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس { ومتعناهم إلى حين } أي : إلى انقضاء آجالهم . روي عن ابن مسعود وغيره : أنّ قوم يونس كانوا بأرض نينوى من أرض الموصل ، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام ، يدعوهم إلى الإيمان فدعاهم فأبوا فقيل له : إنّ العذاب مصبحهم إلى ثلاثة أيام فأخبرهم بذلك فقالوا : إنا لم نجرب عليك كذباً ، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أنّ العذاب مصبحكم .

فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم ، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل . وقال وهب : غامت السماء غيماً عظيماً ، أسود هائلاً يدخن دخاناً عظيماً فهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم ، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك ، فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه ، وقذف الله تعالى في قلوبهم التوبة ، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وأولادهم ودوابهم ولبسوا المسوح ، وأظهروا الإيمان والتوبة ، وأخلصوا النية ، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من النساء والدواب فحنّ بعضها إلى بعض ، وعلت أصواتها واختلطت بأصواتهم ، وعجوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وقالوا آمنا بما جاء به يونس عليه السلام ، فرحمهم الله تعالى ، واستجاب دعاءهم ، وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم . وكل ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم حتى أنّ الرجل كان يقلع الحجر وكان قد وضع عليه أساس بنيانه فيردّه ، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال لهم : قولوا يا حيّ حين لا حيّ ، ويا حيّ محيي الموتى ، ويا حيّ لا إله إلا أنت . فقالوها ، فكشف عنهم . وعن الفضيل بن عياض : اللَّهمَّ إنّ ذنوبنا قد عظمت وجلت ، وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، وستأتي بقية القصة إن شاء الله تعالى في سورة والصافات .

فإن قيل : قد حكى الله تعالى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته ، وحكى عن قوم يونس أنهم آمنوا وقبل توبتهم ، فما الفرق بين الحالين ؟ أجيب : بأنّ فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وهو وقت اليأس من الحياة ، أمّا قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك ، فإنهم لما ظهرت أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن ينزل بهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، وإنّ الله تعالى قد علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه لم يصدق في إيمانه ولا أخلص فلم يقبل منه .