بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ} (98)

قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } يقول : لم يكن أهل قرية كافرة آمنت عند نزول العذاب { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } وقبل منها الإيمان ، ودفع عنهم العذاب { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } . قال مقاتل : فلولا ، على ثلاثة أوجه : الأول يعني : فلم ، مثل قوله : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون } . الثاني : فلولا يعني : فهلاّ كقوله : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 43 ] { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } [ الواقعة : 86 ] والثالث : فلولا يعني : فلوما ، كقوله :

{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الامن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 83 ] { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } [ الصافات : 143 ] .

ويقال : { فلولا } هاهنا ، بمعنى فهلا كانت قرية آمنت ، فنفعها إيمانها . ومعناه فهلاّ آمنت في وقت ينفعها إيمانها . فأعلم الله تعالى ، أن الإيمان لا ينفع عند نزول العذاب ، ثمّ قال : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } معناه : لكن قوم يونس { لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ } يعني : آمنوا قبل المعاينة ، فكشفنا عنهم . وروى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } كما نفع قوم يونس . وعن قتادة : إنَّ قوم يونس عليه السلام خرجوا ونزلوا على تل ، فدعوا الله تعالى أربعين ليلة ، حتى تاب الله عليهم . وروي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ يونس بعثه الله تعالى إلى قومه ، فدعاهم إلى عبادة الله تعالى ، وترك ما هم فيه من الكفر ، فأبوا ، فدعا ربه فقال : يا رب قد دعوتهم ، فأبوا . فأوحى الله تعالى إليه أن ادعهم ، فإن أجابوك وإلا فأعلمهم أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام . فدعاهم فلم يجيبوه ، فأخبرهم بالعذاب ، فقالوا : ما جربنا عليه كذباً مذ كان معنا ، فإن لم يلبث معكم ، وخرج من عندكم ، فاحتالوا لأنفسكم . فلمّا كان بعض الليل خرج يونس من بينهم ، فلما كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسواداً في السماء ، كهيئة النار والدخان ، فظنُّوا أن العذاب نازل بهم ، فجعلوا يطلبون يونس عليه السلام فلم يجدوه ، فلما كان آخر النهار أيسوا من يونس . وجعل يهبط السواد والحمرة ، فقال قائل منهم : إن لم تجدوا يونس عليه السلام فإنكم تجدون رب يونس ، فادعوه ، وتضرعوا إليه .

فخرجوا من القرية إلى الصحراء ، وأخرجوا النساء والصبيان والبهائم ، وفرقوا بين كل إنسان وولده ، وبين كل بهيمة وولدها ، ثمّ عجوا إلى الله تعالى مؤمنين ، مصدقين . وارتفعت أصوات الرجال والنساء والصبيان ، وخوار البهائم وأولادها ، واختلطت الأصوات ، وقربت منهم الحمرة والدخان ، حتى غشي السواد سطوحهم ، وبلغهم حرُّ النار . فلما عرف الله تعالى منهم صدق التوبة ، رفع عنهم العذاب بعدما كان غشيهم ، فذلك قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } يعني : لم يكن أهل قرية آمَنَتْ { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } عند نزول العذاب { إلا قوم يونس لما آمنوا } يعني : صدّقوا بالألسن والقلوب ، عرف الله تعالى منهم الصدق ، { كَشَفْنَا عَنْهُمُ } يعني : رفعنا وصرفنا .

{ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا } يعني : عذاب الهون ، { وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } يعني : إلى منتهى آجالهم . وفي هذه الآية تخويف وتهديد لكفار مكة ، ولجميع الكفار إلى يوم القيامة ، أنهم إن لم يؤمنوا ينزل بهم العذاب ، فلا ينفعهم إيمانهم عند نزول العذاب .