فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ} (98)

{ فلولا كانت قرية آمنت } لولا هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا ، كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما ويدل على ذلك ما في مصحف أبي وابن مسعود { فهلا قرية } وفي هذا التحضيض معنى التوبيخ والنفي فوبخ الله أهل القرى المهلكة قبل يونس ، على عدم إيمانهم قبل نزول العذاب بهم والمعنى فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيمانا معتدا به نافعا وذلك بأن يكون خالصا لله قبل معاينة عذابه ولم تؤخره كما أخره فرعون .

{ فنفعها إيمانها } في حال اليأس { إلا قوم يونس } استثناء منقطع من القرى لأن المراد أهلها ، والمعنى لكن قوم يونس وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع جماعة من الأئمة منهم الكسائي والأخفش والفراء ، وقيل متصل ، والجملة في معنى النفي كأنه قيل ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس ، قال ابن جرير : خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب وحكى ذلك عن جماعة من المفسرين .

وقال الزجاج : أنه لم يقع العذاب وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان ، وهذا أولى من قول ابن جرير .

{ لما آمنوا } إيمانا معتدا به قبل معاينة العذاب حين رؤية أماراته أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم { كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } هو العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه { ومتعناهم إلى حين } أي بعد كشف العذاب عنهم متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم قدره لهم أي على وقت انقضاء آجالهم .

قال قتادة : لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس ، وذكر لنا أن قومه كانوا بنينوى من أرض الموصل فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة وبحث في ذلك الزجاج فقال : إنه لم يقع بهم العذاب وإنما رأوا علامته ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان .

قال القرطبي : وهو كلام حسن فإن المعاينة التي لا ينفع معها الإيمان هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون .

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن يونس دعا قومه فلما أبوا أن يجيبوا وعدهم العذاب فقال : إنه يأتيكم يوم كذا وكذا ثم خرج عنهم ، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت ، فلما أظلهم العذاب خرجوا ففرقوا بين المرأة وولدها والسخلة وولدها ، وخرجوا يعجون إلى الله ، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر فمر به رجل ، فقال : ما فعل قوم يونس ؟ فحدثه بما صنعوا فقال : لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا ، يعني مراغما . وعن سعيد ابن جبير قال : غشي قوم يونس العذاب كما يغشى القبر ، بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دما .

وعن ابن عباس : إن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشفه الله عنهم وقال قتادة : قدر ميل . وقال وهب : غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فتابوا وأخلصوا النية فرحمهم ربهم وكشف ما نزل بهم من العذاب بعدما أظلهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة ، قيل إنهم قالوا : يا حي حين لا حي ، ويا حي يحيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت . وقيل قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله قاله الفضيل ابن عياض والله أعلم ما قالوه .