{ فإذا لقيتم الذين كفروا } أمر بجهادهم بعد بيان خسرانهم . والمراد بهم : المشركون ومن لا ذمة لهم من أهل الكتاب . { فضرب الرقاب } أي فاضربوا رقابهم ضربا في الحرب ؛ فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول به . وهو مجاز عن القتل ، وعبر به عنه لتصوير القتل بأبشع صورة ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأشرف أعضائه . { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم فيهم القتل ، وأوهنتموهم بالجراح ، ومنعتموهم النهوض والحركة . { فشدوا الوثاق } فأحكموا قيد من أسرتموهم ؛ لئلا يفلتوا منكم . يقال : أثخن في الأرض إثخانا ، سار إلى العدو وأوسعهم قتلا .
وأثخنته : أوهنته بالجراحة وأضعفته . والوثاق – بالفتح والكسر - : اسم لما يوثق به ؛ كالقيد والحبل ونحوه . وجمعه وثق ؛ كعناق وعنق . { فإما منا بعد وما فداء } أي فإما تمنون عليهم بعد الأسر بالإطلاق منا ، وإنا تفدون فداء . والمن : الإطلاق بغير عوض . يقال : من عليه ؛ إذا أثقله بالنعمة ، واصطنع عنده صنيعة . والفداء : ما يفدى به الأسير من الأسر . والآية محكمة على ما ذهب إليه جمهور الأئمة .
وذهب الحنفية إلى أنها منسوخة بآية " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " {[325]} . { حتى تضع الحرب أوزارها } أوزار الحرب : آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها ؛ كالسلاح والكراع ، وغير ذلك من الآلات المعروفة في الحروب قديما وحديثا . ووضعها كناية عن انقضاء الحرب بهزيمة العدو أو بالموادعة . و " حتى " عند الجمهور غاية للضرب أو للشد ، أو للمن والفداء معا ، أو للمجموع من قوله " فضرب الرقاب " إلى آخره . بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم ، حتى لا تبقى حرب مع المشركين بزوال شوكتهم . وعند الحنفية غاية للمن والفداء إن حملت الحرب على حرب بدر ؛ أي يمن عليهم ويفادون حتى تضع الحرب أوزارها . وغاية للضرب والشد إن حملت على جنس الحرب ؛ أي أنهم يقتلون ويؤسرون حتى لا تبقى حرب مع المشركين ، بمعنى ألا يبقى لهم شوكة . وتفصيل المذاهب في الفقه .
{ ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } أي ولكن أمركم الله بالقتال ليختبر بعضكم ببعض ؛ فيمتحن المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين . ويمتحن الكافرين بالمؤمنين تمحيقا للكافرين .
قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم 4 سيهديهم ويصلح بالهم 5 ويدخلهم الجنة عرّفها لهم 6 ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم 7 والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم 8 ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } .
ذلك تحريض من الله للمؤمنين على قتال الكافرين الذين يحادون الله ورسوله ويستنكفون عن طاعة ربهم واتباع منهجه القويم . أولئك الذين يصدون عن دين الله ويريدون للبشرية أن تضل السبيل وتزيغ عن منهج الله الحق فتمضي في طريق الشر والباطل ، طريق الشيطان . على أن قتال الكافرين يكون عقب دعوتهم إلى دين الله بالتي هي أحسن وعقب الكشف لهم عن جمال الإسلام وما بني عليه عليه من قواعد الحق والعدل والرحمة ، ترغيبا لهم فيه . وإنما يكون ذلك بالحكمة واللين والبرهان ، فإن آمنوا واهتدوا فهم إخوة في العقيدة والملة ، وإن أبوا واستكبروا وجنحوا للشر والعدوان والتخريب والإفساد في الأرض فلا مناص حينئذ من دفع شرورهم ومكائدهم ومفاسدهم عن البشرية ولا يتحقق ذلك بغير العنف والشدة . وهو قوله : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } ( ضرب ) منصوب على أنه مصدر . وتقديره فاضربوا ضرب الرقاب{[4225]} . واختلفوا في المراد بالذين كفروا الذين أمر بضرب رقابهم ، فقيل : المراد بهم المشركون عبدة الأوثان ، أولئك التائهون ، الموغلون في العماية والحماقة وتبلد الأذهان . وقيل : المراد بهم كل من خالف دين الله وهو الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد أو ذمة ، فهو كل مشرك غير معاهد ولا ذمي . والمعنى : إذا لقيتم المشركين من غير أولي العهد أو الذمة فاضربوا رقابهم . وخص الرقاب بالذكر على سبيل الغلظة والشدة . قوله : { حتى إذا أثخنتموهم } من الإثخان وهو المبالغة في الجراحة . وأثخنتموهم أي غلبتموهم وأكثرتم فيهم الجراح{[4226]} والمعنى المقصود : إذ أكثرتم في المشركين القتل { فشدوا الوثاق } { الوثاق } بالفتح والكسر : ما يشد به ، أوثقه ووثقه توثيقا ، يعني أحكمه بما يوثق به كالرباط {[4227]} أي إذا أسرتم من لم يقتل منهم فأحكموا رباطه كيلا يهرب .
قوله : { فإما منا بعد وإما فداء } { منا } و { فداء } منصوبان على المصدر . يعني : إما أن تمنوا على هؤلاء الأسارى بإطلاقهم من غير فدية ، وإما أن تفادوهم فداء ، أي إطلاقهم في مقابل مال يؤدونه إلى دولة الإسلام . على أن الآية محكمة . وهو قول أكثر المفسرين والعلماء . وهو مروي عن ابن عباس . وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وغيرهم . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإمام مخير بين المن على الأسارى ، ومفاداتهم فقط . وليس له أن يقتلهم استنادا إلى ظاهر الآية . وقال آخرون : بل له أن يقتل الأسير إن وجد في ذلك مصلحة للمسلمين ، بإضعاف المشركين وتبديد شوكتهم ، أو كان الأسير واحدا من الأشقياء الموغلين في الإجرام والإفساد وإيذاء المسلمين ، فقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر .
وذهب الإمام الشافعي إلى أن الإمام مخير بين قتل الأسير أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه .
قوله : { حتى تضع الحرب أوزارها } اختلفوا في تأويل ذلك . فقد قيل : حتى يظهر الإسلام على الدين كله . وقيل : حتى يضع المشركون المحاربون أوزارهم . والمراد بالأوزار ههنا السلاح والكراع وأسباب القتال ، أي يضعوا سلاحهم على سبيل الهزيمة أو الموادعة .
قوله : { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم } { ذلك } في موضع رفع ، لأنه خبر لمبتدأ محذوف . وتقديره : الأمر كذلك{[4228]} والمعنى : هذا الذي أمرتكم به هو حكم الله في المشركين من حيث إلزامكم قتالهم وأسرهم أو المن عليهم ومفاداتهم . ولو أراد الله لأهلكهم بغير قتال فكفاكم قتالهم { ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } أي أمركم الله بقتال الكافرين وجهادهم ليمتحن بعضكم ببعض فيستبين المجاهدون والصابرون من القاعدين المتخاذلين ، وليكون عقاب الكافرين في هذه العاجلة على أيديكم .
قوله : { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم } أي أن الذين يقتلون في سبيل الله له يضيّع الله أجرهم بل إن جزاءهم يكبر ويضاعف طيلة لبثه في البرزخ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.