{ فإذا بلغن أجلهن } أي قاربن انقضاء العدة فراجعوهن بحسن معاشرة ، أو فارقوهن بإيفاء الحقوق من غير مضارة لهن{ وأشهدوا ذوى عدل منكم } عند الرجعة أو عند الفرقة . والأمر للندب . { وأقيموا الشهادة لله } أدوها على وجهها عند الحاجة أداء خالصا لوجه الله تعالى . { ومن يتق الله } أي من يخف الله ، فيعمل بما أمره الله ، ويجتنب ما نهاه عنه{ يجعل له مخرجا } من الضيق ، وفرجا من الكرب في أمره
فإذا بلغن أجلهن : إذا أتممن العدة .
بعد أن أمرَ اللهُ تعالى بأن يكون الطلاق حسب ما أمَرَ به ، وأن يكون طلقة واحدة رجعيّة ، وَمَنَعَ خروج المطلقة من المنزل أو إخراجها إلا إذا أتت بفاحشة ، ونهى عن تعدِّي تلك الحدود حتى لا يحصَلَ الضرر والندم ، خيَّرَ هنا الرجلَ بين أمرين إذا شارفتْ عدةُ امرأته على الانتهاء : إما أن يراجعَها ويعاشرَها بالمعروف والإحسان ، وإما أن يفارقَها مع أداءِ حقوقها التي لها ويُكرمها بقدر
ثم أمر بالإشهادِ على ذلك فقال :
{ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } .
يعني إذا راجع المرء زوجته عليه أن يُشهِد اثنين من العدول ، وإذا فارقَها كذلك . وخاطب الشهودَ بأن يشهدوا على الحق ويؤدوا أمانتهم ، وهي الشهادة ، على وجهها خالصة لله .
{ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } .
هذا الذي أمرتكم به من أمر الطلاق يتعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فيعمل به ولا يخرج عن طاعة الله .
{ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا ً }
ومن ثم يأتي الله تعالى بهذا الكلام اللطيف المطمئن ، يخبر فيه جلّ جلاله أن من يخشى الله ويتقيه ويتقيد بأوامر الشريعة يجعلْ له مخلصا من كل ضيق في الدنيا والآخرة .
{ فإذا بلغن أجلهن } أي قربن من انقضاء عدتهن ، { فأمسكوهن } أي راجعوهن ، { بمعروف أو فارقوهن بمعروف } أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين منكم ، { وأشهدوا ذوي عدل منكم } على الرجعة أوالفراق . أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق . { وأقيموا الشهادة لله } أيها الشهود { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر . ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } قال عكرمة والشعبي والضحاك : يجعل له مخرجاً إلى الرجعة ومن يتق الله فليطلق للسنة . وأكثر المفسرين قالوا : نزلت في عوف ابن مالك الأشجعي ، أسر المشركون ابناً له يسمى مالكاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أسر العدو ابني ، وشكا إليه أيضاً إليه الفاقة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " اتق الله واصبر وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " ، ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه ، وقد غفل عنه العدو ، فأصاب إبلاً وجاء بها إلى أبيه . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فتغفل عنه العدو ، فاستاق غنمهم ، فجاء بها إلى أبيه ، وهي أربعة آلاف شاة . فنزلت : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } في ابنه .
قوله تعالى : " فإذا بلغن أجلهن " أي قاربن انقضاء العدة ، كقوله تعالى : " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن{[15079]} " [ البقرة : 231 ] أي قربن من انقضاء الأجل . " فأمسكوهن بمعروف " يعني المراجعة بالمعروف ، أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها . كما تقدم في " البقرة{[15080]} " . " أو فارقوهن بمعروف " أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن . وفي قوله تعالى : " فإذا بلغن أجلهن " ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادعت ذلك ، على ما بيناه في سورة " البقرة " عند قوله تعالى : " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " [ البقرة : 228 ] الآية{[15081]} .
الأولى- قوله تعالى : " وأشهدوا " أمر بالإشهاد{[15082]} على الطلاق . وقيل : على الرجعة . والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق . فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء . وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا . وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، كقوله تعالى : " وأشهدوا إذا تبايعتم{[15083]} " [ البقرة : 282 ] . وعند الشافعي واجب في الرجعة ، مندوب إليه في الفرقة . وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد ، وإلا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية{[15084]} ليرث .
الثانية- الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب . وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة ، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك ، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة . وقالوا : والنظر إلى الفرج رجعة . وقال الشافعي وأبو ثور : إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة . وقد قيل : وطؤه مراجعة على كل حال ، نواها أو لم ينوها . وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك . وإليه ذهب الليث . وكان مالك يقول : إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد ، ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ، وله الرجعة في بقية العدة الأولى ، وليس له رجعة في هذا الاستبراء .
الثالثة- أوجب الإشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، والشافعي كذلك لظاهر الأمر . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر : إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول ، فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وخصوصا حل الظهار بالكفارة . قال ابن العربي : وركب أصحاب الشافعي على وجوب الإشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول : كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الإقرار بالرجعة ، ومن شرط الرجعة الإشهاد فلا تصح دونه . وهذا فاسد مبني على أن الإشهاد في الرجعة تعبد . ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول : إنه موضع للتوثق ، وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء .
الرابعة- من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة ، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت ، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك ، وكانت زوجته ، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الأول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما : أن الأول أحق بها . والأخرى : أن الثاني أحق بها . فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها .
الخامسة- قوله تعالى : " ذوي عدل منكم " قال الحسن : من المسلمين . وعن قتادة : من أحراركم . وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث ؛ لأن " ذوي " مذكر . ولذلك قال علماؤنا : لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال . وقد مضى ذلك في سورة " البقرة{[15085]} " .
السادسة- " وأقيموا الشهادة لله " أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها ، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير . وقد مضى في سورة " البقرة " معناه عند قوله تعالى : " وأقوم للشهادة{[15086]} " [ البقرة : 282 ] . " ذلكم يوعظ به " أي يرضى به . " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ .
قوله تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج ؟ فتلاها . وقال ابن عباس والشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ، أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة . وعن ابن عباس أيضا " يجعل له مخرجا " ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة . وقيل : المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه ، قاله علي بن صالح . وقال الكلبي : " ومن يتق الله " بالصبر عند المصيبة . " يجعل له مخرجا " من النار إلى الجنة . وقال الحسن : مخرجا مما نهى الله عنه . وقال أبو العالية : مخرجا من كل شدة . الربيع بن خيثم : " يجعل له مخرجا " من كل شيء ضاق على الناس . الحسين بن الفضل : " ومن يتق الله " في أداء الفرائض ، " يجعل له مخرجا " من العقوبة . " ويرزقه " الثواب " من حيث لا يحتسب " أي يبارك له فيما آتاه . وقال سهل بن عبدالله : " ومن يتق الله " في اتباع السنة " يجعل له مخرجا " من عقوبة أهل البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب . وقيل : " ومن يتق الله " في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية . وقال عمر بن عثمان الصدفي : " ومن يتق الله " فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال ، ومن الضيق إلى السعة ، ومن النار إلى الجنة .
{ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } يريد آخر العدة والإمساك بمعروف هو تحسين العشرة وتوفية النفقة ، والفراق بالمعروف هو أداء الصداق والإمتاع حين الطلاق والوفاء بالشروط ونحو ذلك .
{ وأشهدوا ذوي عدل منكم } هذا خطاب للأزواج والمأمور به هو الإشهاد على الرجعة عند الجمهور ، وقد اختلف فيه هل هو واجب أو مستحب على قولين في المذهب وقال ابن عباس هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة ، وهذا أظهر لأن الإشهاد به يرفع الإشكال والنزاع ولا فرق في هذا بين الرجعة والطلاق ، وقد ذكرنا العدالة في البقرة وقوله : { ذوي عدل } يدل على أنه إنما يشهد في الطلاق والنكاح الرجال دون النساء وهو مذهب مالك خلافا لمن أجاز شهادة النساء في ذلك وقوله : { منكم } يريد من المسلمين وقيل : من الأحرار فيؤخذ من ذلك رد شهادة العبيد ، وهو مذهب مالك .
{ وأقيموا الشهادة لله } هذا خطاب للشهود وإقامة الشهادة يحتمل أن يريد بها القيام فإذا استشهد وجب عليه أن يشهد وهو فرض كفاية ، وإلى هذا المعنى أشار ابن الفرس ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون ميل ولا غرض ، وبهذا فسره الزمخشري وهو أظهر لقوله : { لله } وهو كقوله : { كونوا قوامين بالقسط } [ النساء : 135 ] شهداء لله { ذلكم } إشارة إلى ما تقدم من الأحكام . { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } قيل : إنها في الطلاق ومعناها : من يتق الله فيطلق طلقة واحدة ، حسبما تقتضيه السنة ، يجعل له مخرجا بجواز الرجعة متى قدم على الطلاق وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال : لمن طلق ثلاثا إنك لم تتق الله فبانت منك امرأتك ولا أرى لك مخرجا أي : لا رجعة لك وقيل : إنها على العموم أي : من يتق الله في أقواله وأفعاله يجعل له مخرجا من كرب الدنيا والآخرة ، وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس وهذا أرجح لخمسة أوجه : أحدها : حمل اللفظ على عمومه فيدخل في ذلك الطلاق وغيره .
الثاني : أنه روي أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أسر ولده وضيق عليه رزقه فشكى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالتقوى فلم يلبث إلا يسيرا وانطلق ولده ووسع الله رزقه .
والثالث : أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال : " مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة " .
والرابع : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم " : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } الآية : فما زال يقرؤها ويعيدها .
الخامس : قوله { ويرزقه من حيث لا يحتسب } ، فإن هذا لا يناسب الطلاق وإنما يناسب التقوى على العموم .
ولما حد سبحانه ما يفعل {[65998]}في العدة{[65999]} ، أتبعه ما يفعل عند انقضائها فسبب عما أمره به فيها معبراً بأداة التحقق لأن الخطاب على تقدير الحياة ، معلماً أن له الرجعة إلى آخر جزء من العدة لأنها إذا ثبتت في آخرها البعيد من الطلاق كان ما قبله أولى لأنه أقرب إلى الطلاق فقال : { فإذا بلغن } أي المطلقات { أجلهن } أي شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة { فأمسكوهن } أي بالمراجعة ، وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق ما دون البائن لا سيما الثلاث{[66000]} . ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يقدر على كمال الإحسان قال منكراً : { بمعروف } أي حسن عشرة لا بقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاب عدة أخرى ولا غير ذلك { أو فارقوهن } أي بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها { بمعروف } بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر عرفه الشرع - أي حسنه - فلا يقصد أذاها بتفريقها من ولدها مثلاً أو منه إن كانت محبة{[66001]} له مثلاً{[66002]} بقصد الأذى فقط من غير مصلحة وكذا ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل أو القول ، فقد تضمنت{[66003]} الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإبهامها اجتناب المنكرات .
ولما كان كل من المرافقة{[66004]} والمفارقة أمراً عظيماً ، تبنى عليه أحكام فتحرم{[66005]} أضدادها ، فيكون الخلاف فيها في غاية الخطر ، وكان الإشهاد أليق بالمراد ، وأقطع للنزاع ، قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة : { وأشهدوا } أي على المراجعة أو المفارقة { ذوي عدل } أي مكلفين حرين ثقتين يقظين { منكم } أي مسلمين وهو أمر إرشاد مندوب إليه ، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه وجوبه في الرجعية{[66006]} والصحيح الأول ، ومن فوائده أن لا يموت أحدهما فيدعي{[66007]} الآخر الزوجية ببقاء علقة العدة ليرث .
ولما كان أداء الشهادة يعسر على الشاهد لترك مهماته وعسر لقاء الحكم{[66008]} الذي يؤدي عنده ، وربما بعد مكانه ، وكان للعدل{[66009]} في الأداء عوائق أيضاً ، وكان الشهود من المأمورين بالإشهاد{[66010]} ، حث على الأداء على وجه العدل بقوله : { وأقيموا } أي أيها{[66011]} المأمورون حيث كنتم شهوداً { الشهادة } أي التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها كما يفعل من يريد إقامة شيء ليصير واقفاً بنفسه غير{[66012]} محتاج إلى ما يدعمه . ولما كان ربما ميل أحد من المشهود عليهما الشاهد{[66013]} بشيء من المرغبات{[66014]} فأداها على وجهها لذلك الشيء لا لكونه الحق ، قال مرغباً مرهباً { لله } أي مخلصين لوجه الملك الأعلى المحيط {[66015]}بكل شيء{[66016]} علماً وقدرة وهو ذو الجلال والإكرام في أدائها على وجه الحق ظاهراً وباطناً ، لا لأجل المشهود له{[66017]} ولا المشهود عليه ، ولا شيء سوى وجه الله .
ولما كانت أحكامه سبحانه وتعالى لا سيما في الكتاب المعجز مقرونة بعللها وفيها عند التأمل رقائق {[66018]}ودقائق{[66019]} تخشع لها القلوب وتجب الأفئدة في داخل الصدور قال { ذلكم } أي الذي{[66020]} ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام ، وأولاها بذلك هنا الإشهاد وإقامة الشهادة .
ولما كانت أوامر الله تعالى وقصصه وأحكامه وجميع كلامه مختصاً من بين{[66021]} كلام الناس بأنه يرقق القلوب ويلين الشكائم لكونه روحاً لما فيه العدل الذي تهواه النفوس ، وتعشقه الألباب ، وتميل إليه الطبائع ، وقامت به{[66022]} السماوات والأرض ، ولما فيه أيضاً من ذكر من{[66023]} تعشقه الفطر القويمة من جميع أهل الخير من الأنبياء والملائكة والأولياء ، مع تشريف الكل{[66024]} بذكر الله ، سمي وعظاً ، وبني للمجهول إشارة إلى أن الوعظ بنفسه{[66025]} نافع ولو لم يعرف قائله ، وإلى أن الفاعل معروف أنه الله لكونه سمي وعظاً مع كونه أحكاماً فقال : { يوعظ به } أي يلين ويرقق { من كان } أي كوناً راسخاً ، من جميع الناس { يؤمن بالله } أي يوقع ويجدد منكم ومن غيركم على سبيل الاستمرار من صميم قلبه الإيمان بالملك الذي له الكمال كله .
ولما كان البعث محط الحكمة لأن الدنيا مزرعة للآخرة ، ولا يكون زرع بغير حصاد ، كان خلو الإيمان عنه معدماً للإيمان فقال : { واليوم الآخر } فإنه المحط الأعظم للترقيق ، {[66026]}أما من{[66027]} لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة{[66028]} قلبه ما وعظ به لأنه لم ينتفع به أبداً{[66029]} .
ولما كانت العبادة لا تكون إلا بالإعانة ، وكان التقدير : فمن اتعظ بذلك كان اتعاظه شاهداً له بإيمانه بذلك ، وكان متقياً ، عطف عليه قوله اعتراضاً بين هذه الأحكام تأكيداً للترغيب في الإعانة المترتبة على التقوى : { ومن يتق الله } أي يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية مما يرضيه ، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهى عنه من الطلاق وغيره ظاهراً وباطناً ، وذلك صلاح قوي العلم بالإيمان والعمل بفعل المأمور به وترك المنهي عنه{[66030]} لأنه تقدم أن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي ، وإذا قرنت{[66031]} بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي{[66032]} : { يجعل } أي الله سبحانه بسبب التقوى { له مخرجاً * } بدفع المضار من كل{[66033]} ضيق أحاط به في نظير ما اجتنب{[66034]} من المناهي