{ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } لا تقطعوا أمرا ، وتجترئوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم به ويأذنا فيه . وهو إرشاد عام في كل شيء . ومنع من الافتئات على الله ورسوله في أي أمر . و{ تقدموا } من قدم المتعدي . تقول : قدمت فلان على فلان ، جعلته متقدما عليه وحذف مفعوله قصدا إلى التعميم . و " بين يدي الله ورسوله " تمثيل للتعجل في الإقدام على قطع الحكم في أمر من أمور الدين بغير إذن من الله ورسوله – بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريق ؛ فإنه في العادة مستهجن . أو المراد : بين يدي رسول الله ؛ وذكر لفظ الجلالة تعظيما للرسول ، وإشعارا بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله .
سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة ، نزلت بعد سورة المجادلة . وهي من آخر ما نزل من القرآن الكريم ، إذ نزلت في السنة التاسعة من الهجرة . وتتضمن هذه السورة الكريمة حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، وتشمل مناهج التكوين والتنظيم وقواعد التربية والتهذيب ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها بمرات كثيرة ، حتى لقد سمّاها بعضهم " سورة الأخلاق " . وقد سميت " سورة الحجرات " لأن الله تعالى ذكر فيها بيوت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وهي الحجرات التي كان يُسكن فيها أزواجه الطاهرات ، وذلك في عام الوفود . وكان بعض الوافدين أعرابا جفاة ، فكانوا ينادون من وراء الحجرات بأصواتهم الجافية : يا محمد ، اخرج إلينا . فكره النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغلظة والجفوة ، ونزل القرآن الكريم بتعليم الناس حسن الأدب مع الرسول الكريم . { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون . . } .
والسورة مشتملة على تهذيب وتشريع من شأنها رسم معالم كاملة لعالم رفيع كريم . وذلك لما تحويه السورة من القواعد والأصول والمبادئ التي يقوم عليها هذا العالم ، وما فيها من جهد ضخم رصين ، تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة ، لإنشاء الجماعة المسلمة وتربيتها لإبداع ذلك العالم الرفيع الكريم .
وقد جاء في السورة الكريمة خمسة نداءات بلفظ { يا أيها الذين آمنوا } وجاء نداء واحد بلفظ { يا أيها الناس } لأن الخطاب كان عاما للمؤمنين والكافرين ، وذلك في الآية العظيمة التي تضع مبدأ أن الشرف والعظمة هو بالتقوى ، لا بالأحساب والأنساب ، في قوله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم } .
افتتحت السورة بنهي المؤمنين عن الحكم بأي شيء قبل أن يأمر به الله ورسوله ، وعن رفع أصواتهم فوق صوت النبي الكريم ، وأثنت على الذين يخفضون أصواتهم في حضرته ، وندّدت بمن لا يتأدبون فينادونه من وراء الحجرات بأصواتهم الجافية . ثم أمرت المؤمنين بالتثبت من أخبار الفاسقين وضعاف الإيمان ، وبينت الحكم عندما يتقاتل فريقان من المؤمنين وماذا يفعل الباقون إزاء ذلك . ونهت المؤمنين عن استهزاء بعضهم ببعض ، وتعييب بعضهم بعضا ، وعن ظن السوء بأهل الخير ، وعن تتبع بعضهم بعضا ، ونهت الأعراب عن ادّعاء الإيمان قبل أن يستقر في قلوبهم . ثم بينت من هم المؤمنون الصادقون ، وختمت الحديث بالنهي عن المن على رسول الله بالإسلام ، فالمنة لله عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ، إن كانوا صادقين { إن الله يعلم غيب السموات والأرض ، والله بصير بما تعملون } .
لا تقَدموا بين يدي الله ورسوله : لا تعجلوا بالأمر قبل أن يأمر به الله ورسوله . يا أيها الذين آمنوا لا تعجَلوا بأي أمر قبل أن يقضيَ الله ورسوله لكم فيه ، فلا تقترحوا على الله ورسوله أي شيء قبل أن يقول الله ورسوله فيه ، واتقوا الله وراقِبوه خَشيةَ أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به . إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون .
في هذه الآية الكريمة وما يليها تأديبٌ للصحابة وتعليم وتهذيب ، فقد طلَب الله إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه ، ولا يعجَلوا بقولٍ أو فعل قبل الرسول الكريم .
قرأ يعقوب : لا تقدموا بفتح التاء والدال ، والباقون : لا تُقْدموا بضم التاء وكسر الدال المشدَّدة .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا متضمن للأدب ، مع الله تعالى ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتعظيم له ، واحترامه ، وإكرامه ، فأمر [ الله ] عباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان ، بالله وبرسوله ، من امتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وأن يكونوا ماشين ، خلف أوامر الله ، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في جميع أمورهم ، و [ أن ] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا يقولوا ، حتى يقول ، ولا يأمروا ، حتى يأمر ، فإن هذا ، حقيقة الأدب الواجب ، مع الله ورسوله ، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه ، وبفواته ، تفوته السعادة الأبدية ، والنعيم السرمدي ، وفي هذا ، النهي [ الشديد ] عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، على قوله ، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب اتباعها ، وتقديمها على غيرها ، كائنا ما كان{[792]}
ثم أمر الله بتقواه عمومًا ، وهي كما قال طلق بن حبيب : أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، تخشى عقاب الله .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } أي : لجميع الأصوات في جميع الأوقات ، في خفي المواضع والجهات ، { عَلِيمٌ } بالظواهر والبواطن ، والسوابق واللواحق ، والواجبات والمستحيلات والممكنات{[793]} .
وفي ذكر الاسمين الكريمين -بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ، والأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة ، والآداب المستحسنة ، وترهيب عن عدم الامتثال{[794]} .
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " قال العلماء : كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيب الناس . فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب . وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي : " لا تَقَدَّموا " بفتح التاء والدال من التقدم . الباقون " تُقدِموا " بضم التاء وكسر الدال من التقديم . ومعناهما ظاهر ، أي لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا . ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل .
الثانية- واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة : الأول : ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال : حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد . وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي . وقال عمر : ما أردت خلافك . فتماديا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله - إلى قوله - ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم " . رواه البخاري عن الحسن بن محمد بن الصباح ، ذكره المهدوي أيضا .
الثاني : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستخلف على المدينة رجلا إذا مضى إلى خيبر ، فأشار عليه عمر برجل آخر ، فنزل : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " . ذكره المهدوي أيضا .
الثالث : ما ذكره الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلا من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم ، إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكَفَؤُوا{[14044]} إلى المدينة ، فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر ، لأنهم أعز من بني سليم فقتلوهما ، فجاء نفر من بني سليم إلى رسول الله صلى فقالوا : إن بيننا وبينك عهدا ، وقد قتل منا رجلان ، فوَدَاهُمَا النبي صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ، ونزلت عليه هذه الآية في قتلهم الرجلين . وقال قتادة : إن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا ، لو أنزل فيّ كذا ؟ فنزلت هذه الآية . ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . مجاهد : لا تفْتَاتُوا{[14045]} على الله ورسول حتى يقضي الله على لسان رسوله ، ذكره البخاري أيضا .
الحسن : نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح . ابن جريج : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم .
قلت : هذه الأقوال الخمسة المتأخرة ذكرها القاضي أبو بكر بن العربي ، وسردها قبله الماوردي . قال القاضي : وهي كلها صحيحة تدخل تحت العموم ، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية منها ، ولعلها نزلت دون سبب ، والله أعلم . قال القاضي : إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح ، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه كالصلاة والصوم والحج ، وذلك بين . إلا{[14046]} أن العلماء اختلفوا في الزكاة ، لما كانت عبادة مالية وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم ، وهو سد خلة الفقير ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعجل من العباس صدقة عامين ، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقيها يوم الوجوب وهو يوم الفطر ، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها العام والاثنين . فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها . وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع . وقال أشهب : لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة ، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب . ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز ، لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير . وما قاله أشهب أصح ، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير . فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر ، والشهر كالسنة . فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي ، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب .
الثالثة- قوله تعالى : " لا تقدموا بين يدي الله " أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به ، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه : [ مروا أبا بكر فليصل بالناس ] . فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف{[14047]} وإنه متى يقم مقامك لا يُسْمع الناس من البكاء ، فَمُرْ عمر فليصل بالناس . فقال صلى الله عليه وسلم : [ إنكن لأنتن صواحب يوسف{[14048]} . مروا أبا بكر فليصل بالناس ] . فمعنى قول [ صواحب يوسف ] الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز . وربما احتج بُغَاةُ القياس بهذه الآية . وهو باطل منهم ، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقديم بين يديه . وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع ، فليس إذاً تقدمٌ بين يديه . " واتقوا الله " يعني في التقدم المنهي عنه . " إن الله سميع " لقولكم " عليم " بفعلكم .
بسم الله الرحمن الرحيم{[1]} .
سورة الحجرات{[2]} .
مقصودها الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم بالأدب معه في نفسه وفي أمته ، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر [ ليكون-{[3]} ] دليلا على الباطن فيسمى إيمانا ، كما أن الإيمان [ بالله- ] يشترط فيه فعل{[4]} الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون{[5]} بينة على الباطن وحجة شاهدة له { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا [ و-{[6]} ] هم لا يفتنون } فحاصل مقصودها مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم في الأدب معه لأنها أول المفصل الذي هو{[7]} ملخص القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله ، وابتدئي ثاني{[8]} المفصل بحرف من الحروف المقطعة كما ابتدئي ثاني{[9]} ما عداه بالحروف المقطعة ، واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما{[10]} دلت عليه [ آيته-{[11]} ] { بسم الله } الملك الجبار المتكبر الذي من أخل بتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرض عنه عملا { الرحمن } الذي من عموم رحمته إقامة الآداب للتوصل إلى حسن المآب { الرحيم } الذي خص أولى الألباب بالإقبال على ما يوجب [ لهم-{[12]} ] جميل الثواب{[13]} .
ولما نوه سبحانه في القتال بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصرح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به ، وملأ سورة محمد بتعظيمه ، وختمها{[60614]} باسمه ، ومدح أتباعه لأجله ، افتتح هذه باشتراط الأدب معه في القول والفعل للعد{[60615]} من حزبه والفوز بقربه ، ومدار ذلك معالي الأخلاق ، وهي إما مع الله سبحانه وتعالى أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما وإن كان كل قسم لا يخلو عن لحظ الآخر ، وغيرهما إما أن يكون داخلاً مع المؤمنين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها ، وهو الفاسق ، والداخل في طاعة المؤمنين السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم ، فهذه خمسة أقسام ، فصل النداء بسببها خمس مرات ، كل مرة لقسم منها ، وافتتح بالله لأن الأدب معه هو الأصل الجامع للكل والأس{[60616]} الذي لا يبنى إلا عليه ، فقال منادياً للمتسمين بأول أسنان القلوب تنبيهاً{[60617]} على أن سبب نزولها من أفعالهم لا-{[60618]} من أفعال أهل الكمال ، فهو هفوة تقال ، وما كان-{[60619]} ينبغي أن يقال{[60620]} ، وليشمل الخطاب المعهود للأدنى - ولو مع النفاق - من فوقه من باب الأولى : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان { لا تقدموا } وحذف المفعول ليعم{[60621]} كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم-{[60622]} كل مذهب ، ويجوز أن يكون حذفه من قصد إليه أصلاً ، بل يكون النهي موجهاً إلى {[60623]}نفس التقدمة{[60624]} أي لا تتلبسوا{[60625]} بهذا الفعل ، ويجوز أن يكون من قدم - بالتشديد بمعنى أقدم وتقدم أي شجع نفسه على التقدم ، ومنه مقدمة الجيش ، وهم متقدموه{[60626]} ، وأشار إلى تهجين{[60627]} ما نهوا عنه وتصوير شناعته ، وإلى أنهم في القبضة{[60628]} ترهيباً لهم{[60629]} فقال : { بين يدي الله } أي الملك الذي لا يطاق انتقامه .
ولما كان السياق للنهي عن التقديم والتقدم ، وكان مقتضى الرسالة إنفاذ الأوامر والنواهي عن الملك من غير أن يكون من المرسل إليهم اعتراض{[60630]} أصلاً ، وبذلك استحق أن لا يتكلم بحضرته في مهم ولا يفعل مهم إلا بإذنه ، لأن العبيد{[60631]} لما لهم من النقص لا استقلال لهم بشيء أصلاً ، عبر بالرسول دون النبي بعد أن ذكر اسمه تعالى الأعظم زيادة في تصوير التعظيم فقال : { ورسوله } أي الذي عظمته ظاهرة جداً ، ولذلك قرن اسمه باسمه وذكره بذكره ، فهو تمهيد لما يأتي من تعظيمه ، فالتعبير بذلك إشارة إلى أن النفس إذا خليت وفطرتها الأولى ، امتلأت بمجرد رؤيته هيبة منه ، وإجلالاً له ، فلا يفعل أحد غير ذلك إلا بتشجيع منه لنفسه وتكليفها ضد{[60632]} ما تدعو إليه الفطرة الأولى القويمة ، فالمعنى : لا تكونوا{[60633]} متقدمين في شيء من الأشياء والله يقول الحق ويهدي السبيل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه لا ينطق عن الهوى ، فعلى الغير{[60634]} الاقتداء والاتباع ، لا الابتداء والابتداع ، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم غائباً أو حاضراً بموت أو غيره .
فإن {[60635]}آثاره كعينه{[60636]} ، فمن بذل الجهد فيها هدي للأصلح{[60637]} ،
{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }[ العنكبوت : 69 ] .
ولما استعار للدلالة على القدرة التعبير باليدين وصور البينة ترهيباً من انتقام القادر إذا خولف ، صرح بذلك بقوله تعالى : { واتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين غضب-{[60638]} الملك الأعظم وقاية ، فإن التقوى مانعة من أن تضعيوا حقه وتخالفوا أمره وتقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه .
ولما كان سبحانه مع كل بعلمه ، وأقرب إليه من نفسه ، فكان مع ذلك غيباً محضاً لكونه محتجباً برداء الكبر وإزار العظمة والقهر ، وكان الإنسان لما غاب عنه نساء{[60639]} ، ذكره مرهباً{[60640]} بقوله مستأنفاً أو معللاً مؤكداً{[60641]} تنبيهاً على ما في ذلك من الغرابة والعظمة التي يحق للإنسان مجاهدة نفسه لأجلها في الإيمان به{[60642]} والمواظبة على الاستمرار على استحضاره ، لأن أفعال العاصي أفعال من ينكره : { إن الله } أي الذي له الإحاطة بصفات{[60643]} الكمال . ولما كان-{[60644]} ما يتقدم{[60645]} فيه إما قولاً أو فعلاً قال : { سميع } أي لأقوالكم أن تقولوها{[60646]} { عليم * } أي بأعمالكم{[60647]} قبل أن تعملوها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما وصف سبحانه عباده المصطفين صحابة نبيه والمخصوصين {[60648]}بفضيلة مشاهدته{[60649]} وكريم عشرته فقال{ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم }[ الفتح : 29 ] " {[60650]}إلى آخره{[60651]} " ، فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى بذلك في التوراة والإنجيل ، وهذه خصيصة {[60652]}انفردوا بمزية تكريمها{[60653]} وجرت على واضح قوله تعالى{ كنتم خير أمة أخرجت{[60654]} للناس تأمرون بالمعروف }[ آل عمران : 110 ] إلى آخره{[60655]} ، وشهدت لهم بعظيم{[60656]} المنزلة لديه ، ناسب هذا طلبهم بتوفية الشعب الإيمانية{[60657]} قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً على أوضح عمل وأخلص نية ، وتنزيههم{[60658]} عما وقع من{[60659]} قبلهم في{[60660]} مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل{ يا موسى ادع لنا ربك }[ الأعراف : 134 ] إلى-{[60661]} ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } الآية و-{[60662]} { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } - إلى قوله - { والله غفور رحيم } فطلبوا بآداب تناسب عليّ إيمانهم{[60663]} وإن اغتفر بعضه لغيرهم من ليس في درجتهم وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين فكأن قد قيل-{[60664]} لهم : لا تغفلوا ما منح{[60665]} لكم في التوراة والإنجيل ، فإنها{[60666]} درجة لم ينلها غيركم{[60667]} من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث{[60668]} في الخطاب ، أو{[60669]} سوء قصد في الجواب ، وطابقوا بين {[60670]}ظواهركم وبواطنكم{[60671]} و{[60672]}ليكن علنكم{[60673]} منبئاً بسليم سرائركم { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } ثم أمروا بالتثبت عند نزغة الشيطان ، أو تقول ذي بهتان { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية ، ثم أمرهم بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين العتاة{[60674]} وتحسين العشرة والتزام{[60675]} ما يثمر الحب والتودد الإيماني والتواضع ، وأن الخير كله في التقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وكل ذلك محذر لعلي صفاتهم التي وصفوا بها في خاتمة سورة الفتح .