الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال ، مدنية{[1]}

قوله : { يسئلونك عن الانفال } ، إلى قوله : { مومنين }[ 1 ] .

قال أبو حاتم{[26652]} : الوقف على { ذات } ب : " الهاء " ، وكل العلماء قال : ب " التاء " ؛ لأنها مضافة{[26653]} ، ولا يحسن الوقف عليها البتة إلا عن ضرورة{[26654]} .

وقرأ سعد{[26655]} بن أبي وقاص : " يسئلونك الأنفال " ، بغير { عن }{[26656]} .

والمعنى : يسألك{[26657]} أصحابك ، يا محمد عن الغنائم التي غنمتها يوم بدر ، لمن هي ؟ فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : هي لله والرسول{[26658]} .

و{ الانفال } : الغنائم . بذلك قال عكرمة ، ومجاهد ، وابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وعطاء{[26659]} .

فأكثر العلماء الذين جعلوها : الغنائم ، على أنها منسوخة بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية{[26660]} .

وقيل : { الانفال } هي زيادات تزيدها الأئمة لمن شاء{[26661]} ، إذا كان في ذلك صلاح للمسلمين{[26662]} ، فهي محكمة . وروي{[26663]} ذلك عن ابن عمر ، وعن ابن عباس{[26664]} .

وقيل { الانفال } : ما شد من العدو ، من عبد أو دابة ، للإمام أن يُنفل ذلك من شاء إذا كان ذلك صلاحا . قاله{[26665]} الحسن{[26666]} .

{ الانفال } : جمع " نفل " {[26667]} ، و " النفل " : الغنيمة{[26668]} ، سميت بذلك ، لأنها تفضل من الله عز وجل على هذه الأمة ، لم تحل لأحد قبلها .

وقوله : { قل الانفال لله } ، يدل على أنهم سألوا لمن هي{[26669]} .

وقوله : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }[ 1 ] ، يدل على أن سؤالهم كان بعد تنازع فيها .

وقيل { الانفال } : السرايا{[26670]} . قاله علي بن صالح{[26671]} .

وقال مجاهد { الانفال } : الخمس{[26672]} .

وهذه الآية نزلت في غنائم بدر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ، زاد{[26673]} قوما لبلاء أبلوا ، فاختلفوا فيها ، بعد تقضي{[26674]} الحرب ، فنزلت الآية تعلمهم أن ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ماض جائز{[26675]} .

وروى ابن عباس ( رضي الله عنه ){[26676]} ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من أتى مكان كذا ، وفعل كذا ، فله كذا " ، فتسارع الشبان ، وبقي الشيوخ ، فلما فتح الله عليهم ، طلب الشبان ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال الأشياخ : لا يذهبوا بذلك دوننا ! {[26677]} فأنزل الله عز وجل : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }{[26678]} الآية .

وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ، سُئل شيئا من الغنائم قبل أن تقسم فامتنع من ذلك ، فنزلت : { قل الانفال لله والرسول } فرخص{[26679]} الله عز وجل ، له أن يعطي من أراد{[26680]} .

و[ قيل ]{[26681]} : إنهم سألوه الغنيمة يوم بدر ، فأُعلموا أن ذلك لله والرسول{[26682]} .

و{ عن } في موضع : " مِن " {[26683]} .

وقرأ ابن مسعود على هذا التأويل : " يسئلونك الانفال " {[26684]} .

وذكر ابن وهب{[26685]} : أنها نزلت في رجلين أصابا سيفا من النفل ، فاختصما فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو لي وليس لكما " ، فنزل : { قل الانفال لله والرسول } ، وأمر الرجلين أن يصلحا ذات بينهما ، وأن يطيعا الله{[26686]} ورسوله في ما أمرهما به النبي صلى الله عليه وسلم ، ن دفع{[26687]} السيف إليه ، ثن نُسخ ذلك بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية{[26688]} .

وروي أن الرجلين اللذين اختصما في السيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، : سعد بن مالك بن وهيب الزهري{[26689]} ، ورجل من الأنصار ، فأُمرا{[26690]} في الآية أن يسلماه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يصلحا ذات بينهما ، وأن يطيعا الله ورسوله فيما يأمرانهما من تسليم السيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك{[26691]} .

وقيل : إن أهل القوة يوم بدر غنموا أكثر مما غنم أهل الضعف ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }{[26692]} .

وقيل : إنهم اختلفوا في الغنائم ، فنزلت : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }{[26693]} .

" والبين " {[26694]} هنا : " الوصل " {[26695]} .

أُمِروا بصلاح وصلهم ، وألا يتقاطعوا في الاختلاف على الغنائم ، كأنه قال : كونوا مجتمعي{[26696]} القلوب .

وأنثت { ذات } ؛ لأنه يراد بها الحال التي هم عليها{[26697]} .

وذكر إسماعيل القاضي{[26698]} : أنهم اختلفوا ثلاث فرق ، فقالت فرقة اتبعت العدو : نحن أولى بالغنائم ، وقالت فرقة حفَّت بالنبي صلى الله عليه وسلم نحن أولى ، وقالت فرقة أحاطت بالغنائم : نحن أولى ، فأنزل الله تعالى ، الآيات في ذلك{[26699]} .


[1]:أ: إذ.
[26652]:سهل بن محمد السجستاني.
[26653]:قال أبو حيان في البحر 4/453: و{ذات} هنا: نعت لمفعول محذوف، أي: وأصلحوا أحوالا ذا افتراقكم، لما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت صفتها إليه...".
[26654]:قال في مشكل إعراب القرآن 1/309: "وكل العلماء والقراء وقفوا على {ذات} بـ:"التاء" إلا أبا حاتم فإنه أجاز الوقف عليها بـ: "الهاء". وأورده ابن الأنباري في البيان في غريب إعراب القرآن 1/383، من غير عزو.
[26655]:في الأصل، و"ر": سعيد، وهو تحريف، صوابه من مصادر التوثيق أسفله.
[26656]:إعراب القرآن للنحاس 2/175، والمختصر في شواذ القرآن 54، وعزاها إلى ابن مسعود، والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات 1/272، وزاد نسبتها إلى ابن مسعود، وعلي بن الحسين، وأبي جعفر محمد بن علي، وجعفر بن محمد، وطلحة بن مصرف، وزاد المسير 3/318. وزاد نسبتها إلى ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي العالية، والبحر المحيط 4/453، وزاد نسبتها إلى ابن مسعود، وعلي بن الحسين، وولديه: زيد ومحمد الباقر، وولده جعفر الصادق، وعكرمة، وعطاء، والضحاك، وطلحة بن مصرف.
[26657]:في الأصل: يسألونك.
[26658]:جامع البيان 13/361.
[26659]:جامع البيان 13/361، 362، وتفسير ابن كثير 2/282، وزاد نسبته إلى الضحاك، وعطاء الخرساني، ومقاتل بن حيان، وغير واحد. وهو أيضا قول الحسن، وأبي عبيدة، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين، كما في زاد المسير 3/318.
[26660]:الأنفال: 41. قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 95: "روي عن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد: أن هذا منسوخ بقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه} الآية. قال ابن عباس: {الانفال}: الغنائم، كانت للنبي صلى الله عليه وسلمن خاصة، ثم نسخها: {واعلموا أنما غنمتم من شيء}، وقاله الضحاك والشعبي. وأكثر الناس على أنها محكمة". وقال الطبري في جامع البيان 13/382: "وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ...وغير جائز، أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها...". قال ابن العربي في الناس والمنسوخ 224: "وقال الأكثر: إنها محكمة...". وهو اختيار ابن الجوزي في نواسخ القرآن 344.
[26661]:كذا في المخطوطتين، ولعله: لمن تشاء، كما في نص الإيضاح الآتي، هامش 8.
[26662]:وهو القول الذي صوبه الطبري في جامع البيان 13/265، 266.
[26663]:في "ر": روي.
[26664]:قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: "قال ابن عباس، وفي رواية عنه أخرى: هي محكمة، وللإمام أن ُنفل من الغنائم ما شاء لمن يشاء لبلاء أبلاه، وأن يُرضخ لمن لم يقاتل إذا كان في ذلك صلاح للمسلمين"، انظر: جامع البيان 13/363، وما بعدها.
[26665]:في الأصل: قوله، وهو تحريف.
[26666]:قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: "وقال عطاء، والحسن: هي أيضا محكمة مخصوصة في من شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو أمة أو متاع، أو دابة، فهو نفل للإمام أن يصنع فيه ما يشاء" انظر: جامع البيان 13/363، وما بعدها، فعنه نقل مكي.
[26667]:بتحريك الفاء. و"النفل" في اللغة: هو الزيادة، ومنها "نفل الصلاة، وهو الزيادة على فرضها، وولد الولد نافلة؛ لأنه زيادة على الولد، والغنيمة نافلة؛ لأنها زيادة فيما أحل لهذه الأمة مما كان محرما على غيرها". أحكام ابن العربي 2/835. وينظر: تفسير ابن كثير 2/284.
[26668]:ومنه قول لبيد بن ربيعة. إن تقوى ربنا خير نفل أي: خير غنيمة، انظر مجاز القرآن 1/240، وجامع البيان 13/366. وتفسير القرطبي 7/230، والمصباح/نفل.
[26669]:قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 296، وذلك أنهم سألوا لمن هي؟"
[26670]:قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 296: وقيل {الانفال}: أنفال السرايا".
[26671]:جامع البيان 13/362، وزاد المسير 3/318، وتفسير ابن كثير 2/283، وفيه: "....ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش". وهو قول الحسن أيضا في تفسيره 1/399، بلفظ: "{الانفال}: هي السرايا التي تتقدم أمام الجيوش". وعلي بن صالح هو: علي بن صالح بن حيِّ الهمداني، أبو محمد الكوفي، ثقة، توفي سنة 151هـ. انظر: تهذيب التهذيب 3/168، وتقريب التهذيب 341.
[26672]:قال في الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه 296: "وعن مجاهد...{الانفال}: الخمس". وأثر مجاهد أخرجه الطبري في جامع البيان 13/365، بسنده. وأورده الماوردي في تفسيره 2/292، وابن الجوزي في زاد المسير 3/318.
[26673]:في الأصل: إذ قاموا، وهو تحريف محض.
[26674]:انقضى الشيء وتقضى بمعنى، المختار/قضي.
[26675]:جامع البيان 13/367، بتصرف. وفي الأصل: جابر، بباء موحدة، وهو تحريف.
[26676]:ما بين الهلالين ساقط من "ر".
[26677]:في الأصل: ذوننا، بالذال المعجمة، وهو تصحيف.
[26678]:جامع البيان 13/367، بتصرف يسير. وقال الشيخ محمود شاكر في هامش تحقيقه"...، هو خبر صحيح الإسناد...رواه الحاكم في المستدرك 2/326ن وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 6/315،....". انظر: أسباب النزول للواحدي 235، وزاد المسير 3/316، وتفسير ابن كثير 2/284، ولباب النقول في أسباب النزول 188.
[26679]:في الأصل: قد خص، وهو تحريف محض.
[26680]:انظر: من قال ذلك في جامع البيان 13/371، وما بعدها، وتفسير الماوردي 2/293، وزاد المسير 3/317، وتفسير ابن كثير 2/284.
[26681]:زيادة من "ر".
[26682]:جامع البيان 13/277، باختصار.
[26683]:جامع البيان 13/277، باختصار.
[26684]:جامع البيان 13/378. والقراءة مضى تخريجها قريبا 467، والمصادر هناك. وفي المحرر الوجيز 2/496: "وقالت فرقة: إنما سألوه "الأنفال" نفسها أن يعطيهم إياها، واحتجوا في ذلك بقراءة،...، عبد الله بن مسعود...".
[26685]:عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، أبو محمد المصري، صاحب مالك، ثقة، توفي سنة 197هـ. انظر: تقريب التهذيب271.
[26686]:في الأصل: لله.
[26687]:في "ر": من رفع، براء مهملة.
[26688]:الأثر لم أجده منسوبا إلى ابن وهب فيما لدي من مصادر. وهو في أحكام ابن العربي 2/834، بتفصيل، مرويا عن سعيد بن جبير.
[26689]:هو: سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف القرشي الزهري، أبو إسحاق بن أبي وقاص، أحد العشرة، وآخرهم موتا. توفي سنة 56 على المشهور. انظر: الاستيعاب 2/171، وما بعدها، والإصابة 3/61، وما بعدها، وتقريب التهذيب 172.
[26690]:في الأصل: فأمروا.
[26691]:انظر: أحكام ابن العربي 2/834.
[26692]:هو قول ابن جريج في جامع البيان 13/383، بتصرف.
[26693]:هو قول مجاهد، وابن عباس، والسدي كما في جامع البيان 13/284، باختصار.
[26694]:في "ر": لببن، وهو تحريف.
[26695]:معاني القرآن للزجاج 2/200، وتمام نصه: "قال تعالى: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام:95]، أي: وصلكم". انظر: المحرر الوجيز 2/500، والبحر المحيط 4/453. وقرئ: {بينكم} بالنصب والرفع، فاستعمل تارة اسما، وتارة ظرفا. انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/440، ومفردات الراغب 156.
[26696]:في الأصل: مجتمع، وهو تحريف.
[26697]:انظر: جامع البيان 13/384.
[26698]:هو: إسماعيل بن مسلم العبدي، أبو محمد البصري القاضي، ثقة. انظر تقريب التهذيب 49. وينظر: تهذيب التهذيب 1/167.
[26699]:الأثر لم أجده منسوبا إلى إسماعيل القاضي فيما لدي من مصادر. وهو مروي عن عبادة بن الصامت، بألفاظ فيها زيادة، في أسباب النزول للواحدي 235، 236، وتفسير القرطبي 7/229.