الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِۚ فِيهِ رِجَالٞ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} (108)

قوله : { لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق }{[29980]}[ 108 ] ، الآية .

والمعنى : لا تقم ، يا محمد ، في المسجد الذي بناه المنافقون ، ضرارا وتفريقا بين المؤمنين ، أبدا{[29981]} .

ثم أقسم{[29982]} ، فقال : { لمسجد أسس على التقوى } ، أي : ابتدئ أساسه وبناؤه على طاعة الله عز وجل ، ورضوانه { من أول يوم } ، ابتدئ بنيانه ، { أحق أن تقوم فيه } ، أي : أولى أن تقوم فيه ، مصليا لله ، عز وجل{[29983]} .

و{ من } هاهنا ، بمعنى : منذ{[29984]} .

وقيل : [ المعنى ]{[29985]} ، من تأسيس أول يوم{[29986]} .

ومعنى { أول يوم } : أول الأيام : كما تقول : أتيت على كل رجل{[29987]} ، أي : على كل الرجال{[29988]} .

قال ابن عمر{[29989]} ، وعمر{[29990]} ، وزيد بن ثابت{[29991]} ، وأبو سعيد الخدري{[29992]} وابن المسيب{[29993]} ، وخارجة{[29994]} بن ثابت ، وابن جريج{[29995]} : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي فيه اليوم قبره{[29996]} .

وقال ابن عباس{[29997]} ، وابن زيد{[29998]} ، وعروة بن الزبير{[29999]} ، وأبو زيد{[30000]} : هو مسجد قُباء . وقاله ابن جبير{[30001]} ، وقتادة{[30002]} .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " هو مسجدي{[30003]} هذا{[30004]} " .

وقوله : { فيه رجال }[ 108 ] .

" الهاء " {[30005]} لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم{[30006]} وقال الشعبي : هي لمسجد قُباء{[30007]} . وكذلك{[30008]} قال شهر بن حوشب{[30009]} .

فعلى هذا يجوز أن يكون الضميران{[30010]} مختلفين ، وأن يكونا متفقين{[30011]} .

وقوله : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا }[ 108 ] .

مدحوا ، لأنهم كانوا يستنجون بالماء من الغائط والبول ، لا خلاف في هذا التفسير بين أهل التفسير{[30012]} .

قال قتادة : لما نزلت هذه الآية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لأهل قُباء : إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ، فما تصنعون ؟ قالوا : إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول{[30013]} .

قوله : { أحق أن تقوم فيه } وقف{[30014]} ، إن جعلت الضمير مخالفا{[30015]} للضمير الأول : فإن جعلته{[30016]} مثله وقفت على : { يتطهروا }{[30017]}-{[30018]} .

109

قوله : { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير }[ 109 ] ، الآية .

قرأ نصر بن علي{[30019]} : " أسس بنينه " ، بتخفيف السين ورفعه ، وخفض البنيان{[30020]} .

وحكى أبو حاتم عن بعض القراء{[30021]} : " أفمن أساس بنينه " ، برفع أساس وخفض البنيان{[30022]} .

و " أسس " و " أس " سواء{[30023]} ك : عَرَب وعُرْب . و " أساس " واحد ، وجمعه : أُسس{[30024]} .

وحكى أبو حاتم ، أيضا ، قراءة أخرى : " أفمن أسس بنيانه " برفع " آساس " ومده ، وخفض البنيان ، وهو جمع " أس " ك : " خُف " و " أخفاف " والكثير " إساس " ك " خِفاف " {[30025]} .

و{ جرف }{[30026]} ، و{ جرف }{[30027]}[ 109 ] لغتان{[30028]} ، وهو شفير{[30029]} ما ينفى من جُرُف الوادي إذا أخذه السيل{[30030]} .

قال أبو حاتم : أصل { هار }[ 109 ] : هاور{[30031]} ، ثم قلب ، ك : شاكي السلاح وشائك السلاح{[30032]} .

وحكى الكسائي : " تهور " و " تهير " {[30033]} . والهائر المتقدم . وحكى : هار يهور ويهير ويهار{[30034]} .

ومعنى الآية : أنها مثل{[30035]} . والمعنى : /أي هذين الفريقين خير ؟ وأي هذين البناءين خير وأثبت ؟ من ابتدأ أساس بنيانه على طاعة الله ، أم من{[30036]} ابتدأه على ضلال وخطأ من دينه{[30037]} ؟

قوله : { فانهار [ به ] }{[30038]}[ 109 ] .

يحسن أن تكون الألف من " واو " أو " ياء " على ما تقدم{[30039]} .

قال ابن عباس : [ { فانهار به } ]{[30040]} ، يعني قواعده { في نار جهنم }{[30041]} .

وذُكر{[30042]} أنه حفرت بقعة منها{[30043]} ، فرئي{[30044]} الدخان{[30045]} .

قال ابن جريج : ( فلما فرغوا من بناء المسجد ، صلوا فيه ثلاثة أيام ، وانهار{[30046]} اليوم الرابع { في نار جهنم } . قال ابن جريج{[30047]} : ذكر لنا أن رجلا حفر فيه ، فأبصر الدخان يخرج منه{[30048]} .

وقال جابر : رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم{[30049]} .


[29980]:ما يبن الهلالين ساقط من "ر".
[29981]:جامع البيان 14/475.
[29982]:تقديره: والله لمسجد أسس، كما في تفسير البغوي 4/95، وينظر: الدر المصون 3/503.
[29983]:جامع البيان 14/475، بتصرف يسير.
[29984]:المحرر الوجيز 3/83، وفيه: "قيل معناه: منذ أول يوم"، وتفسير القرطبي 8/165، وفيه "من" عند النحويين مقابلة منذ" فمنذ في الزمان بمنزلة "من" في المكان. فقيل: إن معناها هنا معنى منذ، والتقدير: منذ أول يوم ابتدئ بنيانه". وتحرفت منذ في الأصل إلى: بمن.
[29985]:زيادة من "ر".
[29986]:المحرر الوجيز 3/83، وزاد: "وإنما دعا إلى هذا الاختلاف أن من أصول النحويين، أن "مِن" لا تُجر بها الأزمان، وإنما تُجر الأزمان بـ"منذ"، تقول: ما رأيته منذ يومين أو سنة أو يوم، ولا تقول من شهر ولا من سنة ولا من يوم"، والتبيان 1/405، وزاد "فحذف المضاف، لأن "من" لا تدخل على ظروف الزمان. وذهب الكوفيون إلى أنها تدخل على ظروف الزمان، فلا تفتقر إلى تقدير حذف مضاف" والتبيان 2/660، وفيه: "والتقدير عند بعض البصريين: من تأسيس أول يوم، وهذا ضعيف هاهنا، لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون "مِن" لابتداء غايته. ويدل على جواز دخول "من" على الزمان ما جاء في القرآن من دخولها على "قبل" التي يراد بها الزمان، وهو كثير في القرآن وغيره"، ينظر: البحر المحيط 5/102، 103، والدر المصون 3/503.
[29987]:رجل تحرفت في الأصل إلى: حال.
[29988]:جامع البيان 14/476، بلفظ: "لقيت كل رجل..." وأتى عليه: مر به، المصباح/أتى.
[29989]:جامع البيان 14/476، والدر المنثور 4/287.
[29990]:تفسير ابن كثير 2/390.
[29991]:جامع البيان 14/477، والدر المنثور 4/287.
[29992]:انظر: المصدر السابق.
[29993]:جامع البيان 14/478، والدر المنثور 4/288.
[29994]:تفسير عبد الرزاق الصنعاني 2/288، وجامع البيان 14/278. وهو: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، أبو زيد المدني: ثقة فقيه. انظر: تقريب التهذيب 126.
[29995]:لم أقف على قوله فيما لدي من مصادر، ولم يذكر في تفسيره المطبوع.
[29996]:جامع البيان 14/476.
[29997]:جامع البيان 14/478، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1881، 1882، وتفسير ابن كثير 2/388، والدر المنثور 4/288.
[29998]:جامع البيان 14/479.
[29999]:تفسير عبد الرزاق الصنعاني 2/287، وجامع البيان 14/479، والدر المنثور 4/287.
[30000]:في "ر": وأبو زيد. ولم أقف عليه فيما لدي من مصادر.
[30001]:تفسير ابن أبي حاتم 6/1882، وتفسير الماوردي 2/402، وتفسير البغوي 4/96، وزاد المسير 3/501. وفي "ر": ابن جريج: ولم أقف عليه، ولعله تحريف محض.
[30002]:المصادر نفسها.
[30003]:في الأصل: مسجد، وهو سهو ناسخ.
[30004]:جامع البيان 14/479، قال الشيخ محمود شاكر في هامش تحقيقه: "...، وهذا الخبر تفرد به أحمد من هذا الطريق نفسها، في مسنده 5/331، ثم رواه في ص: 335، من طريق عبد الله ابن عامر، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7/34، وقال: "رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجالهما رجال الصحيح". انظر: مزيد بيان في تفسير ابن كثير 389، 390. وفيه: "...والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء....وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف...وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى، وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية وبين هذا، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى...".
[30005]:في "ر": إنها وهو تحريف ناسخ.
[30006]:انظر: إعراب القرآن للنحاس 2/236، وتفسير القرطبي 8/166.
[30007]:جامع البيان 14/487، والدر المنثور 4/490.
[30008]:في "ر": ولذلك، وهو تحريف ناسخ.
[30009]:جامع البيان 14/482، وما بعدها. وشهر بن حوشب الأشعري مترجم في تقريب التهذيب 210.
[30010]:يقصد الضمير في قوله: {أحق أن تقوم فيه} والضمير في قوله: {فيه رجال} انظر تفسير القرطبي 8/166.
[30011]:على الخلاف المتقدم في المسجد المعني بقوله: {لمسجد أسس على التقوى} انظر إعراب القرآن للنحاس 2/236، فعنه نقل مكي.
[30012]:انظر: الإجماع على هذا التفسير في جامع البيان 14/482-490، وتفسير ابن كثير 2/389، 390 والدر المنثور 4/288-291.
[30013]:جامع البيان 14/483، وهو في أحكام القرآن لابن العربي 1015، بلفظ مكي واختصاره. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره 2/390، "قوله: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء والتنزه عن ملابسة القاذورات".
[30014]:تام عند يعقوب، كما في القطع والإئتناف 368، وكاف في المكتفى 299، وينظر: المقصد 170، ومنار الهدى 170.
[30015]:في الأصل: مخالف، وهو خطأ ناسخ، وانظر: اختلاف الضميرين فيما سلف قريبا.
[30016]:في الأصل: جعلت وهو سهو ناسخ.
[30017]:في المخطوطتين يطهروا، بالإدغام، وهي قراءة طلحة بن مصرف والأعمش، كما في المحرر الوجيز 3/84، والبحر المحيط 5/103، والدر المصون 3/504.
[30018]:وهو وقف كاف في المكتفى 299، والمقصد 170، ومنار الهدى 170.
[30019]:انظر: غاية النهاية 2/337، 338.
[30020]:البحر المحيط 5/103، والدر المصون 3/504، وهي قراءة نصر بن عاصم أيضا. إعراب القرآن للنحاس 2/236، والمحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات 1/303، والمحرر الوجيز 3/84.
[30021]:في "ر": وحكى أبو حاتم أيضا قراءة أخرى: "أفمن".
[30022]:إعراب القرآن للنحاس 2/236.
[30023]:رسمها ناسخ الأصلي: سوى.
[30024]:إعراب القرآن للنحاس 2/236.
[30025]:إعراب القرآن للنحاس 2/236، 237 وتفسير القرطبي 8/167، انظر: معاني القرآن للفراء 1/452، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/469، والمحتسب 1/304، والبحر المحيط 5/103. وقرأ نافع وابن عامر: {أسس} بضم الألف، وبرفع نون {بنيانه} وقرأ ابن كثير وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: (أسَّس) بفتح الألف، وبفتح نون (بنيانه) انظر: الكشف 1/507 وكتاب السبعة في القراءات 318. قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 2/469: "....والذي ذكر غير هاتين جائز في العربية، غير جائز في القراءة، إلا أن تثبت به رواية".
[30026]:برفع الراء، وهي قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، والكسائي، كتاب السبعة في القراءات 318.
[30027]:بإسكان الراء، ونهي قراءة: ابن عامر، وعاصم، في رواية أبي بكر، وحمزة، كتاب السبعة في القراءات 318.
[30028]:معاني القراءات 1/465، وتفسير البغوي 4/97، والمحرر الوجيز 3/85، والبحر المحيط 5/104 وينظر: الدر المصون 3/505.
[30029]:في الأصل: شفين، وهو تحريف لا معنى له.
[30030]:انظر: معاني القراءات 1/465، 466، واللسان/جرف.
[30031]:مشكل إعراب القرآن 1/336، وإعراب القرآن للنحاس 2/237، وتفسير القرطبي 8/168.
[30032]:انظر: مزيد بيان في مجاز القرآن 1/269، وجامع البيان 14/492، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/470، والمحرر الوجيز 3/85، وتفسير القرطبي 8/168، والدر المصون 3/505.
[30033]:مشكل إعراب القرآن 1/336، وإعراب القرآن للنحاس 2/237، وتفسير القرطبي 8/168.
[30034]:الدر المصون 3/505، من غير نسبة، انظر: اللسان/هور. قال في مشكل إعراب القرآن 1/336، "وأجاز النحويون: أن يجري {هار} على الحذف، ولا يقدر المحذوف لكثرة استعماله مقلوبا، فيصير كالصحيح، تعرب الراء بوجوه الإعراب، ولا يرد المحذوف في النصب كما فعل بـ"غاز" و"رام" ومن رأى هذا جعله على وزن "فعل"، كما قالوا "يوم راح فرفعوا، وهو مقلوب من رائح لكنهم لما كثر استعمالهم له مقلوبا جعلوه "فَعْلا" فأعربوه بوجوه الإعراب. ويجوز عندهم أن يجري على القياس كـ"غاز" و"رام" فيكون وزنه "فاعلا" مقلوبا إلى "فالع"، ثم يُعل لأجل استثقال الحركة على حرف العلة ودخول التنوين كما أعلُّوا قولهم: قاض، ورام وغاز في الرفع والخفض وصححوه في النصب لخفة الفتح". انظر: الكشف 1/508، والدر المصون 3/505.
[30035]:الكشف 1/508 وجامع البيان 14/492، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/470. وبشأن أمثال القرآن ينظر: البرهان 1/486، وما بعدها، والإتقان 4/38، وما بعدها.
[30036]:في الأصل: ما ابتداءه، وهو تحريف ناسخ.
[30037]:جامع البيان 14/492، بتصرف.
[30038]:زيادة من "ر".
[30039]:في {هار} فهو "من المادة نفسها، فأصله: انهوار، أو انهير، بوزن "انفعل" قلب حرف العلة ألفا لتحركه بعد فتح" البيان والتعريف بما في القرآن من أحكام التصريف 1/328.
[30040]:زيادة لازمة من مصدري التوثيق أسفله.
[30041]:جامع البيان 14/492، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1884.
[30042]:في "ر": حفرة، وهو سهو ناسخ.
[30043]:قال الشيخ محمود شاكر في هامش تحقيقه، جامع البيان 14/493، وقوله: "منها" أي: من أرض مسجد الضرار.
[30044]:في "ر": فرؤي.
[30045]:هو طرف من قول قتادة في جامع البيان 14/493، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1884، والدر المنثور 4/292.
[30046]:من قوله: وانهار اليوم، إلى: الدخان، لحق في الأصل.
[30047]:ما بين الهلالين ساقط من "ر"، بسبب انتقال النظر.
[30048]:جامع البيان 14/439، بتصرف.
[30049]:جامع البيان 14/493، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1884، وتفسير ابن كثير 2/391، والدر المنثور 4/292، وينظر تفسير القرطبي 8/168.