الآية : 69 : ثم قوله تعالى : { أن اتخذي من الجبال بيوتا } ، وقوله : { ثم من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذُلُلاً } ، ( ونحوهما ، ظاهره أمر ){[10290]} ، لكن حقيقته تمكين وتسهيل ، نحو قوله : { سيروا في } كذا في الظاهر أمر ، وفي{[10291]} الحقيقة تمكين وتيسير .
ثم في هذه الآية وفي قوله : { يخرج من بطونها } ، وفي ما سبق من الآيات ، وهو قوله : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه } ( النحل : 66 ) ، وفي قوله : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } ( النحل : 67 ) ، دلالة قدرته على إنشاء الأشياء من لا شيء ، ودلالة علمه وتدبيره ؛ لأنه أخرج من هذه الجواهر المختلفة أشياء من غير جوهرها وجنسها ما لم يكن شيء مما أكل منها هذه البهائم من الجواهر التي أخرج منها ، من نحو العسل الذي أخرج من الفواكه التي أكلت ، واللبن من العلف الذي أكل ، والعصير والسكر والأعناب من الكروم ، إذ ليس شيء خرج منها من جنس ما أكل ، ولا من جوهر ما سقي .
دل ( أنها بغير علم قادرة ) {[10292]} على إنشاء الأشياء من لا شيء ولا سبب .
وفيه دلالة علمه وتدبيره وحكمته ؛ لأن إنشاء ذلك اللبن في البطن على غير جوهر ما تناولت ، ومن خلاف لونه في تلك الظلمات ، دل أن علمه غير مقدم بعلم الخلق ، وأن حكمته غير مُقَدِّرَة بحكمة الخلق ، وكذلك قدرته غير مُقَدِّرة بقدرة الخلق .
ثم قوله تعالى : { فاسلكي سبل ربك ذللا } ، قيل : طرق ربك { ذَلُلاً } . وقيل : مطيعة ، وقيل : من الذل ، أي : الرفق واللين ، كقوله : { أذلة على المؤمنين } ( المائدة : 54 ) وقوله : { واخفض جناحك } الآية ( الحجر : 88 ) ، ( من الذل ){[10293]} ومن الرفق واللين .
أحدهما : ذللت سبل ربها . ( والثاني : ){[10294]} سهل السلوك فيها حتى تسلك كيف شاءت .
وقوله تعالى : { ومن الشجر ومما يعرشون } ، قيل : مما يبنون ، ويتخذ من العرش ، وهو الذي يتخذ من الخشب . وقوله تعالى : { مختلف ألوانه } ، قال الحسن : الشهد والعسل . وقال {[10295]} بعضهم : مختلف في الطَّعْمِ ، وقيل : في الأوان ، الأبيض والأحمر والأصفر .
وقوله تعالى : { فيه شفاء للناس } ، قال بعضهم : { فيه شفاء للناس } من كل داء ، حتى القروح وكل شيء . وقال بعضهم : قوله : { فيه شفاء للناس } من داء دون داء . وقال بعضهم : { فيه شفاء للناس } ، يعني : في القرآن فيه شفاء للقلوب ، للدين .
ويحتمل قوله : { فيه شفاء للناس } ( للأجساد ){[10296]} . وإن أراد هذا فهو ظاهر ، لا شك أن فيه ذلك الشفاء . ويحتمل قوله : { فيه شفاء للناس } ، للدين . فإن كان هذا يكن ذلك من جهة النظر فيه ، يدرك ، ويوصل إلى ذلك الشفاء .
وقوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } ، قال بعضهم : من نوع ما تأكل النحل . وقال بعضهم : من جميع الثمرات التي تكون في الجبال . عن عبد الله ( أنه ){[10297]} قال : القرآن والعسل هما الشفاء ، إن القرآن شفاء الدين ، والعسل شفاء الأبدان .
وقال بعضهم من أهل اللغة : إن الوحي في كلام العرب على وجوه : منها وحي النبوة ؛ فهو إرسال الله الملائكة إلى أنبيائه ورسله ، كقوله : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } ( الشورى : 51 ) . ومنها وحي الإشارة ، كقوله : { فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } ( مريم : 11 ) . ومنها وحي الإلهام ، وهو قوله : { وأوحى ربك إلى النحل } ( النحل : 68 ) ، وقوله : { وأوحينا إلى أم موسى } ( القصص : 7 ) ، وقوله : { بأن ربك أوحى لها } ، ( الزلزلة : 5 ) ونحوه ، ومنها وحي الإسرار كقوله : { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول } الآية ( الأنعام : 112 ) .
وقال بعضهم : إن أصل {[10298]} الوحي عندنا ، هو أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا للاستتار والإخفاء ، وقد يكون ذلك بالإيماء والخط . وأصل الوحي ما ذكرنا أنه سمي به لسرعة وقوعه وقذفه في القلب .
وقال أبو بكر : تأويل الوحي أن يعلم الذي يوحي إليه ، ويرشده . وذلك لوجهين :
أحدهما : أن الله أرشد كل دابة سوى الإنسان إلى مصلحتها والهرب عن مهلكها ومتلفها ، بما فطرها الله عليه ، كما أرشد الإنسان إلى ما يصلحه في دينه ودنياه بالتعليم . فمَثَّلَ الله تعالى تعليمه لكل دابة ما فيه مصلحتها ومفسدتها بما دبرها عليه ، كما علم الإنسان بالقول والبيان ، فقال : { وأوحى ربك إلى النحل } ( النحل : 68 ) ، أي : أرشدها ، ودلها بفطرتها ، { أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر } ، بيوتا فيها . { ومما يعرشون } ، يعني : واتخذي مما يبني الإنسان لمسكنه{[10299]} ، وقال : العريش : الحيطان التي لا سماء لها ، بفطرتها تتخذ خلاياها ، وكل{[10300]} ذلك لمنافع الخلق .
( والثاني ) {[10301]} : ثم قال : { ثم كلي من كل الثمرات } ، والثمرات مختلفة الطعم والمنظر والمشم . { فاسلكي سبلا ربك } ، وهو ما سبل الله لها من الرزق والمأوى . { ذللا } ، قال : يقول {[10302]} : ذلل لك كل شيء ( قدره لرزقك ومسلكك ، وذللك في طلب ما سبل لك لبني آدم ، وجعله {[10303]} سببا لمنافعهم ، وصَغَرَ قدرك ليريهم بذلك قدرته وسلطانه على ما شاء ؛ ليعلموا أن خالقهم لا يعجزه شيء ) {[10304]} ، وأنه القدير على ما يعدهم من البعث والثواب والعقاب .
وقوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه } يقول : الجنس واحد ، ثم هو ضروب ، كالألوان : التمر والعنب ، وسائر الثمار ، في مذاقه ومشامه ومنظره ، وكله عسل { فيه شفاء للناس } ، لمنافعهم وملاذهم ، ( وفيه ما ) {[10305]} أداه من قدرته على ما يشاء ؛ من ذلك فيه شفاء في الدين والعلم ، يعلمون بما يشاهدون من تدبير الله وقدرته على ما بينا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { إن في ذلك لآية } ، يقول : لعبرة ودليلا وبرهانا { لقوم يتفكرون } ، في ما يشاهدون من تدبير الله وتقديره وقدرته على ما يشاء ، والله أعلم .
وقال في قوله : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } ( النحل : 67 ) ، يقول : ولكم عبرة ودليل أن النخل أجذاع {[10306]} خشب ، لا طعم فيها ( والكروم أيضا ، وما فيهما ){[10307]} من سعف وورق ، لا عسل فيها ، ولا عنب . فأخرج الله عنهما ثمرات مختلفات ، فيها {[10308]} عسل ، وفيها {[10309]} تمر وزبيب ، وتتخذون منه ما تتلذذون من الشراب .
وقال هذا قبل تحريم الخمر . والسَّكر كل ما أسكرهم ، وتتخذون منه أيضا رزقا حسنا ، أي : طيبا ، وهو ما تأكلون منها سوى ما تشربون ، وتكسبون بها أموالا كثيرة ، من الله به عليهم .
وقال بعضهم : السَّكْْر : كل شيء حرمه الله من ثمارها من الشراب : الخمر من العنب ، والسكر من التمر . والرزق الحسن ما أحل من ثمرها : الزبيب والتمر والنبيذ ، وقال : السكر ما أسكر ، والرزق الحسن أشباهه . { إن في ذلك لآية } ودليلا وبيانا . { لقوم يتفكرون } فيتنبهون{[10310]} ، فيعلمون أن الذي لم يعجز عما خلق لهم من الثمار من خشب يابس يقدر أن يحيي الموتى ، ويخلق ما يشاء ، وما عرفه الخلق أنه يكون من النطفة الولد ، ومن الماء والأشجار الفواكه ، ومن العلف اللبن ، وغير ذلك من الحوادث التي تحدث من الأشياء ، وتلك أسبابها ما لم يُدْرَك كون تلك الأشياء فيها ( ولا يرى ، ولا ) {[10311]} يعرف ذلك إلا بتعليم من هو عالم بذاته ؛ لأن علم ذلك لو ( ما ) {[10312]} كان بتعليم ، لو اجتهد كل اجتهاد {[10313]} ، لم يدركوا حدوث تلك الأشياء مما ذكرنا ولا كونها منها . دل أن الذي علمهم ، هو عالم بذاته . فإذا ثبت كونه عالما {[10314]} بذاته ، وإن كانوا لم يُشاهدوا إلا عالما بغير . فعَلى ذلك هو قادر على إنشاء الأشياء من لا شيء ، وإن كانوا لم يعاينوا في الشاهد شيئا إلا من شيء .
وفيه أن ما يحدث ، ويكون من اللبن بالعلف الذي يؤكل ، أو الطعام الذي يتناول ، أو الفواكه والثمار التي تخرج ، ليس تكون بنفس الماء ، أو بنفس الطعام والعلف ، ولكن باللطف ممن الله تعالى ؛ لأنه قد يسقي ذلك الماء الشجر والنخل في حال ، ثم لا يكون فيه الثمر ، وكذلك الدواب تعلف في حال لا يكون ذلك منه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.