تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَأۡخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ شَيۡـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَا فِيمَا ٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (229)

الآية 229 وقوله [ جل وعلا ]{[2696]} : { الطلاق مرتان } ؛ فيه{[2697]} دلالة أن يطلق بنيتين بمرتين ، وقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } أن له الرجعة بعد طلاقين بذكره مرتين ، وفيه أن المطلق في الطهر الثالث من غير رجعة مطلق للسنة لما خير بين الإمساك أو التشريح من غير مراجعة ، وهو على مالك /39- أ/ لأنه يقول : ( ليس له أن يزيد على تطليقه واحدة إلا أن يراجع . { أو تسريح بإحسان } هو التطليقة الثالثة ) كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التسريح بإحسان ، فقال : ( هو التطيلقة الثالثة ) [ بنحو : الدر المنثور ج 1/664 ] . فإن قيل : إيش الحكمة في ذكر المعروف في الإمساك والإحسان في التسريح ؟ قيل : فذلك أن في التسريح قطع الحقوق التي أوجبها النكاح ، فأمر عند قطعها عنها بالإحسان إليها مبتدئا{[2698]} . والإحسان أبدا إنما يكون عند ابتداء الفعل لا عند المكافأة . وأما المعروف في الإمساك فالنكاح أوجب ذلك بقوله{[2699]} : { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } [ النساء : 21 ] ؛ قيل : الميثاق الغليظ الحقوق التي أوجب النكاح . وهذا ، والله أعلم ، وجه الحكمة ، والمعروف ما عرفا في النكاح ، والإحسان هو ما يبتدئ مما لم يعرفا .

وقوله : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } فظاهر هذه الآية الكريمة يوجب ابتداء الخطاب للأزواج ، ثم آخرها يوجب الخطاب لهما جميعا ، ثم آخرها يوجب الخطاب لغير الأزواج ، يحفظ عليهما حدود الصحة ، فشبه أن يكون في الآية [ إظمار : الحكمين ]{[2700]} ، فيكون كقوله : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } [ النساء : 35 ] ، فيكونان هما اللذان يحفظان الحد المحدود{[2701]} .

و يحتمل أن يكون الخطاب في قوله : { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله } للحكم لأنهم هو الذين يتولون النظر في أمور الناس ليقوموهم على حفظ حدود الله .

ثم القول عندنا في قوله : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } إذا كان النشور [ واقعا ]{[2702]} من قبل الزوج ، فإنه لا يحل أخذ شيء على الخلع استدلالا بقوله : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منها شيئا } [ النساء : 20 ] . وأما إذا كان النشوز من قبلها فإنه لا بأس أن يأخذ قدر المهر ، وتكره الزيادة . وتجوز{[2703]} . وما قدر المهر فغنه لا بأس إذا كان النشوز من قبلها استدلالا [ بقوله ]{[2704]} : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ؛ ذكر رفع الحرج عن الذي فدى فيما عنه نهى [ في ]{[2705]} غير هذا ، وهو المؤتي ؛ لذلك قلنا : إنه يجوز ، إذا كان النشوز من قبلها ، قدر المهر ، وأما الزيادة فإنها{[2706]} تكره استدلالا بما روي في الخبر أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت بغض زوجها ، فقال : ( أتردين عليه حديقته ؟ فقالت{[2707]} : نعم وزيادة ، [ فقال : أما الزيادة ]{[2708]} فلا ) [ بنحوه ابن ماجه : 2056 ] ، ففيه{[2709]} الدلالة أن النشور إن النشوز إذا كان من قبلها فإنه يجوز قدر المهر .

وقال أبو داود : ( خالف الشافعي ظاهر الكتاب في ما جعل له أخذ ما فدى والزيادة ، والكتاب رفع الحرج{[2710]} عن أخذ ما فدى ، لم يجعل له غيره بقوله : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } . وقال{[2711]} ابن شريح : ( ما ذلك الأخذ في الطلاق ؟ إنما ذلك في الطلاق كرها ، لأنه ليس في الآية ذكر الطلاق ) ، واستدل بقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مرئيا } [ النساء : 4 ] ؛ فجعل له أكل ما أخذ بالوصف الذي ذكره . ثم كان له أخذ ما تبذل في غير الطلاق . فعلى ذلك في الطلاق ، وفي الطلاق أحق ، والله أعلم .

والأصل عندنا جواز ما بذلت : أخذه مما احتج به الرجل إن كان له بذلك في غير الطلاق ، وهو [ في ]{[2712]} الطلاق أجوز ؛ لأنها تنتفع ، غير أنه يكره الفضل له{[2713]} لما ذكرنا من الآية والخبر ، ثم يجوز هو لأنه تبادل ؛ فكان كالعقود التي تكره لربح ما لم يضمن على الجواز ، فكذا هذا . والأصل بأن الطلاق بالبدل بينهما ، {[2714]} وهو لو لم يملك البينونة مطلقا لم يملكه بما شرط ، فثبت أنه يملك ؛ وأصله أنه بالطلاق ، ويصرف إليها ما ملك عليها بالعقد ، فانتفعت بإزاء ما بذلت ، لذلك سلم للزوج ما أخذ ، والله أعلم . قال : ويكره أخذ الزيادة بما فيه رفع النكاح ، فيصير أخذ ما يأخذ بالذي أعطى ، فما يفضل عليه ليس بإزائه بدل ، وذلك وصف الربا ، والله أعلم .

ثم اختلف في قوله : { إلا أن يخافا } ؛ قيل : { يخافا } علما ؛ يعني الرجل والمرأة ، وقيل : علم الحكمان { ألا يقيما حدود الله } . وعلى ذلك [ قوله ]{[2715]} : { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله } ؛ قيل{[2716]} علمتم ، وقيل : الخوف [ هو الخوف ]{[2717]} ، فكأنه أقرب لأن العلم يكون في ما مضى من الحال أنهما أقاما حدودا ، أو لم يقيما ، وأما الخوف في حادث الوقت أمكن لأنه لا يعلم باليقين ، لذلك كانا ما ذكرنا ، وهو قوله : { إني أخفا إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } [ الأنعام : 15 ] .

[ وقوله : { فلا جناح عليهم فيما اقتدت به } أختلف فيه ]{[2718]} ؛ قال بعضهم : أراد بقوله : { عليهما } عليه خاصة ، وهذا جائز في اللغة إضافة شيء إلى الاثنين والمراد واحد منهما كقوله : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرج من أحدهما ، ومثله كثير . وقال آخرون : أريد جميعا : المراد بالفداء ، والرجل بالأخذ لأن الزوج نهي عن أخذ شيء مما آتاها بقوله : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } ثم أباح ، ورفع الحرج منه بالأخذ على الشرط ، وقيل : أراد بذلك الزوج خاصة ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } ؛ قيل : إذا لم يفهم [ بحد من حدود الله تعالى ما يفهم ]{[2719]} من حد الخلق . كيف فهم من استواء الرب ومجيئه من قوله : { استوى على العرش } [ الأعراف : 54 و . . ] [ وقوله ]{[2720]} : { وجاء ربك } [ الفجر : 22 ] ما فهم من استواء الخلق ومجيئهم ؟ والاستواء والمجيء معان : أن ينفي عنه التشبيه أكثر من احتمال الحدود في الشاهد . فإذا لم يفهم من هذا ذلك{[2721]} لم يجز أن يفهم من الأول ما فهموا ، وقد قال : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] .

وقوله : { حدود الله } ؛ قيل : أحكام الله وسنته ، وقيل : أوامره ونواهيه [ وقيل : إرادته ، وهو واحد ]{[2722]} .

وقوله : { ومن بعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } يحتمل وجهين : يحتمل { ومن بعد حدود الله } مستحلا لها ، فيكفر بتعديه ذلك ، فهو ظالم ظلم كفر . ويحتمل { ومن بعد } تجاوز أمر الله وما نهاه عنه غير مستحيل لها ، فهو ظالم نفسه ، غير كافر .


[2696]:من ط ع.
[2697]:في النسخ الثلاث: ففيه.
[2698]:في ط ع: مهتديا.
[2699]:في النسخ الثلاث: كقوله.
[2700]:في الأصل وم: الإضمار فيها الحكمين، في ط ع: الإضمار فهما الحكمين.
[2701]:في ط ع: والمحدود.
[2702]:من ط ع وم، ساقطة من الأصل.
[2703]:ساقطة من ط ع.
[2704]:من ط ع وم، ساقطة من الأصل.
[2705]:من ط ع وم، في الأصل: من.
[2706]:من ط ع، في الأصل وم: فإنه.
[2707]:في ط ع: فقال.
[2708]:من ط ع وم، ساقطة من الأصل.
[2709]:من ط ع وم، في الأصل: فيه.
[2710]:في ط ع: المحرج.
[2711]:الواو ساقطة من الأصل وط ع.
[2712]:من ط ع.
[2713]:ساقطة من ط ع.
[2714]:في النسخ الثلاث: بينها.
[2715]:من ط ع.
[2716]:في ط ع: يعني.
[2717]:من ط ع وم، ساقطة من الأصل.
[2718]:في ط ع: ثك اختلف في قوله: {فلا جناح عليهما فيما اقتدت به}.
[2719]:ساقطة من م.
[2720]:في ط ع: و، ساقطة من الأصل وم.
[2721]:من ط ع، في الأصل وم: ذالك.
[2722]:في م: ادابه، ساقطة من ط ع.