النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً } ، في قوله : { وَإِذْ } وجهان :

أحدهما : أنه صلة زائدة ، وتقدير الكلام : وقال ربك للملائكة ، وهذا قول أبي عبيدة ، واستشهد بقول الأسود بن يعفر{[66]} :

فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ *** وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحاً بِفَسَادِ

والوجه الثاني : أن " إذ " كلمة مقصورة ، وليست بصلة زائدة ، وفيها لأهل التأويل قولان :

أحدهما : أن الله تعالى لما ذكَّر خلقه نِعَمَهُ عليهم بما خلقه لهم في الأرض ، ذكّرهم نِعَمَهُ على أبيهم آدَمَ { إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } ، وهذا قول المفضَّل .

والثاني : أن الله تعالى ذكر ابتداء الخلق فكأنه قال : وابتدأ خلقكم { إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } ، وهذا من المحذوف الذي دَلَّ عليه الكلام ، كما قال النمر بن تَوْلَبَ :

فَإِنَّ الْمَنَّيةَ مَنْ يَخْشَهَا *** فَسَوفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا

يريد : أينما ذهب .

فأما الملائكة فجمع مَلَكٍ ، وهو مأخوذ من الرسالة ، يقال : ألِكِني إليها أي أرسلني إليها ، قال الهذلي :

ألِكْنِي إليها ، وَخَيْرُ الرَّسُو *** لِ أَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ

والألوك الرِّسالة ، قال لبيد بن ربيعة :

وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ *** بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَألْ

وإنما سميت الرسالة ألوكاً لأنها تُؤْلك في الفم ، والفرس يألك اللجام ويعلكه ، بمعنى يمضغ الحديد بفمه .

والملائكة أفضل الحيوان وأعقل الخلق ، إلا أنهم لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا ينكحون ، ولا يتناسلون ، وهم رسل الله ، لا يعصونه في صغير ولا كبير ، ولهم أجسام لطيفة لا يُرَوْنَ إلا إذا قوَّى الله أبصارنا على رؤيتهم .

وقوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً } اختلف في معنى { جاعل } على وجهين :

أحدهما : أنه بمعنى خالق .

والثاني : بمعنى جاعل ، لأن حقيقة الجَعْل فِعْلُ الشيء على صفةٍ ، وحقيقة الإحداث إيجاد الشيء بعد العدم .

و { الأرض } قيل : إنها مكة ، وروى ابن سابط ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دُحِيَت الأرضُ من مكةَ " ولذلك سميت أم القرى ، . قال : وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بن زمزم والركن والمقام .

وأما " الخليفة " فهو القائم مقام غيره ، من قولهم : خَلَفَ فلانٌ فلاناً ، والخَلَفُ بتحريك اللام من الصالحين ، والخَلْفُ بتسكينها من الطالحين ، وفي التنزيل :

{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا{[67]} الصَّلاةَ } ، وفي الحديث : " ينقل هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ " . وفي خلافة آدم وذريته ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنه كان في الأرض الجِنُّ ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء ، فأُهْلِكوا ، فَجُعِل آدم وذريته بدلهم ، وهذا قول ابن عباس .

والثاني : أنه أراد قوماً يَخْلُفُ بعضهم بعضاً من ولد آدم ، الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض ، وهذا قول الحسن البصري .

والثالث : أنه أراد : { جاعل في الأرض خليفةً } يخْلُفُني في الحكم بين خلقي ، وهو آدم ، ومن قام مقامه من ولده ، وهذا قول ابن مسعود .

قوله عز وجل : { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ، وهذا جواب من الملائكة حين أخبرهم ، أنه جاعل في الأرض خليفةً . واختلفوا في جوابهم هذا ، هل هو على طريق الاستفهام أو على طريق الإيجاب ؟ على وجهين :

أحدهما : أنهم قالوه استفهاماً واستخباراً حين قال لهم : إني جاعلٌ في الأرض خليفة ، فقالوا : يا ربنا أَعْلِمْنَا ، أجاعل أنت في الأرض من يُفْسِدُ فيها ويسفك الدماء ؟ فأجابهم : إني أعلم ما لا تعلمون ، ولم يخبرهم .

والثاني : أنه إيجاب ، وإن خرجت الألف مَخْرج الاستفهام ، كما قال جرير :

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايا *** وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ{[68]}

وعلى هذا الوجه في جوابهم بذلك قولان :

أحدهما : أنهم قالوه ظناً وتوهُّماً ، لأنهم رأوا الجن من قبلهم ، قد أفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فتصوروا أنه إن استخلف استخلف{[69]} في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء .

وفي جوابهم بهذا وجهان :

أحدهما : أنهم قالوه استعظاماً لفعلهم ، أي كيف يفسدون فيها ، ويسفكون الدماء ، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال : إني أعلم ما لا تعلمون .

والثاني : أنهم قالوه تعجباً من استخلافه لهم أي كيف تستخلفهم في الأرض وقد علمت أنهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء ؟ فقال : { إني أعلم ما لا تعلمون } .

وقوله : { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } السفك صب الدم خاصةً دون غَيْرِهِ من الماء والمائع ، والسفح مثله ، إلا أنه مستعمل في كل مائع على وجه التضييع ، ولذلك قالوا في الزنى : إنه سفاح لتضييع مائه فيه .

قوله عز وجل : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .

والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء{[70]} على جهة التعظيم ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ{[71]} *** سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَهَ الْفَاجِرِ

أي براءةً من علقمة .

ولا يجوز أن يسبَّحَ عَيْرُ اللهِ ، وإن كان منزهاً ، لأنه صار علَماً في الدين على أعلى مراتب التعظيم الَّتي لا يستحقها إلا اللهُ تعالى .

وفي المراد بقولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أربعة أقاويل :

أحدها : معناه نصلي لك ، وفي التنزيل :

{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ }

[ الصافات : 143 ] ، أي من المصلين ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود .

والثاني : معناه نعظِّمك ، وهذا قول مجاهد .

والثالث : أنه التسبيح المعروف ، وهذا قول المفضل ، واستشهد بقول جرير :

قَبَّحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا *** سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إهْلاَلاَ

وأما قوله : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } فأصل التقديس التطهير ، ومنه قوله تعالى : { الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ }{[72]} أي المطهَّرة ، وقال الشاعر :

فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ وَالنَّسَا *** كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ{[73]}

أي المطهَّر .

وفي المراد بقولهم : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } ثلاثةُ أقاويلَ :

أحدها : أنه الصلاة .

والثاني : تطهيره من الأدناس .

والثالث : التقديس المعروف .

وفي قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ } ثلاثةُ أقاويل :

أحدها : أراد ما أضمره إبليس من الاستكبار والمعصية فيما أُمِرُوا به من السجود لآدم ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود .

والثاني : مَنْ في ذرية آدم في الأنبياء والرُّسُلِ الذين يُصْلِحُونَ في الأرض ولا يفسدون ، وهذا قول قتادة .

والثالث : ما اختص بعلمه من تدبير المصالح .


[66]:- ابن يعفر: ساقطة من ق. وهي في ك ابن جعفر. والأسود بن يعفر له ترجمة في الأغاني جـ11 ص 134-139 وقصيدته هذه في العقد الفريد جـ3 ص 189.
[67]:- الآية 59 من سورة مريم.
[68]:- من قصيدة له في مدح عبد الملك بن مروان مطلعها: أتصحوا أم فؤادك غير صاح عشية همّ صحبك بالرواح وعندما سمع عبد الملك هذا البيت (ألستم خير...) قال: بلى نحن كذلك وما زلنا.
[69]:- ستخلف الثانية ساقطة من ق.
[70]:- من السور: ساقطة من ق.
[71]:- فخره: في ك أفكه
[72]:- الآية 21 من المائدة.
[73]:- البيت لامرئ القيس، والهاء في أدركته ضمير الثور، والنون ضمير الكلاب والنسا عرق في الفخد، والشبرقة تقطيع الثوب وغيره، والمقدس بكسر الدال وتشديدها الراهب. وبالفتح المبارك. يقول: أدركت الكلاب الثور يأخذن بساقه وفخده وشبرقت جلده كما شبرق ولدان النصارى ثوب الراهب المسبح لله عز وجل إذا نزل من صومعته فقطعوا ثيابه تبركا به (عن شرح الديوان).