النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

قوله عز وجل : { إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَة فما فوقها } .

في قوله : { لاَ يَسْتَحْيِي } ثلاثةُ تأويلاتٍ :

أحدها : معناه لا يترك .

والثاني : [ يريد ] لا يخشى{[54]} .

والثالث : لا يمتنع ، وهذا قول المفضل .

وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من موَاقَعَةِ القبح .

والبعوضة : من صغار{[55]} البقِّ سُميت بعوضة ، لأنها كبعض البقَّة لصِغَرِها .

وفي قوله : { مَا بَعُوضَةً } ثلاثةُ أوجُهٍ :

أحدها : أن " ما " بمعنى الذي ، وتقديره : الذي هو بعوضة .

والثاني : أن معناه : ما بين بعوضة إلى ما فَوْقها .

والثالث : أن " ما " صلةٌ زائدةٌ ، كما قال النابغة :

قَالَتْ أَلاَ لَيْتُمَا هذَا الْحَمَامُ لَنَا *** إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفُهُ فَقَدِ{[56]}

{ فَمَا فَوْقَهَا } فيه تأويلان :

أحدهما : فما فوقها في الكبر ، وهذا قول قتادة وابنِ جُريجٍ .

والثاني : فما فوقها في الصغر ، لأن الغرض المقصود هو الصغر . وفي المثل ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنه وارد في المنافقين ، حيث ضَرَبَ لهم المَثَلَيْنِ المتقدِّمين : مثَلَهُمْ كمثل الذي استوقد ناراً ، وقوله : أو كصيِّب من السماء ، فقال المنافقون : إن الله أعلى مِنْ أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } ، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس .

والثاني : أن هذا مثلٌ مبتدأ ضَرَبَهُ الله تعالى مثلاً للدنيا وأهلها ، وهو أن البعوضة تحيا ما جاعت ، وإذا شبعت ماتت ، كذلك مثل أهل الدنيا ، إذا امتلؤوا من الدنيا ، أخذهم الله تعالى عند ذلك ، وهذا قول الربيع بن أنس .

والثالث : أن الله عز وجل حين ذكر في كتابه العنكبوت والذباب وضربهما مثلاً ، قال أهل الضلالة : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهذا قول قتادةَ ، وتأويل الربيع أحسن ، والأولُ أشبَهُ{[57]} .

قوله عز وجل : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } فيه ثلاثةُ تأويلات :

أحدها : معناه [ يضل ]{[58]} بالتكذيب بأمثاله ، التي ضربها لهم كثيراً ، ويهدي بالتصديق بها كثيراً .

والثاني : أنهم امتحنهم بأمثاله ، فَضَلَّ قوم فجعل ذلك إضلالاً لهم ، واهتدى قوم فجعله هدايةً لهم .

والثالث : أنه إخبار{[59]} عمَّنْ ضلَّ ومن اهتدى .


[54]:- رجح هذا القول الطبري، قال تعالى: وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. بمعنى تستحي.
[55]:- هكذا في الأصول وقد علق الدميري على ذلك بقوله (هو وهم)، ووصف البعوضة، والدليل على أن البعوض غير البق حديث: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء.
[56]:الشاهد في أن ما التي جاءت بعد ليت زائدة.
[57]:- أي القول الأول. وعندما يقول المؤلف وهو أشبه فإنه يرجح ذلك الرأي.
[58]:- يضل: زيادة يقتضيها السياق.
[59]:- اخبار: في ق حكاية.