النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساءِ } فيه أربعة تأويلات :

أحدها : يعني إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتامى ، فانكحوا ما حَلَّ لكم من غيرهن من النساء ، وهو قول عائشة رضي الله عنها .

والثاني : أنهم كانوا يخافون ألاّ يعدلوا في أموال اليتامى ، ولا يخافون أن لا يعدلوا في النساء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، يريد كما خفتم ألاّ تعدلوا في أموال اليتامى ، فهكذا خافوا ألا تعدلوا في النساء ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والسدي ، وقتادة .

والثالث : أنهم كانوا يتوقَّون أموال اليتامى ولا يتوقَّون الزنى ، فقال كما خفتم في أموال اليتامى ، فخافوا الزنى ، وانكحوا ما طاب لكم من النساء ، وهذا قول مجاهد .

والرابع : أن سبب نزولها ، أن قريشاً في الجاهلية كانت تكثر التزويج بغير عدد محصور ، فإذا كثر على الواحد منهم مؤن زوجاته ، وقَلَّ مالُه ، مدّ يده إلى ما عنده من أموال الأيتام ، فأنزل الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ } .

{ مثنى وثلاث ورباع } تقديرا لعددهن وحصرا لمن أبيح نكاحه منهن ، وهذا قول عكرمة .

وفي قوله تعالى : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسَاءِ } قولان :

أحدهما : أن ذلك عائد إلى النساء وتقديره فانكحوا من النساء ما حلَّ . وهذا قول الفراء .

والثاني : أن ذلك عائد إلى النكاح وتقديره فانكحوا النساء نكاحاً طيباً . وهذا قول مجاهد .

وقوله تعالى : { مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معدول به عن اثنين وثلاث وأربع ، وكذلك أُحاد وموحد ، وثناء ومثنى ، وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ، وهو اسم للعدد معرفة ، وقد جاء الشعر بمثل ذلك ، قال تميم بن أبي مقبل :

ترى العثرات الزُّرْق تحت لَبَانِه *** أُحاد ومثْنى أضعفتها كواهِله

وقال آخر :

قتلنا به من بين مَثْنى وموحد *** بأربعة منكم وآخر خامس

قال أبو عبيدة : ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز الرباع والمربع عن جهته إلا في بيت للكميت ، فإنه قال في العشرة عُشار وهو قوله :

فلم يَسْتَرِ يَثُوكَ حتى رَمِدْ *** ت فوق الرجال خِصالاً عشاراً

وقال أبو حاتم : بل قد جاء في كلامهم من الواحد إلى العشرة ، وأنشد قول الشاعر :

ضربت خماس ضربة عبشمى *** أدار سداس ألاَّ يستقيما

{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا } يعني في الأربع ، { فَوَاحِدَةً } يعني من النساء .

{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني في الإماء .

{ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : أَلاَّ يكثر مَنْ تعولون ، وهو قول الشافعي .

والثاني : معناه ألاّ تضلوا ، وهو قول ابن إسحاق ، ورواه عن مجاهد .

والثالث : ألا تميلوا عن الحق وتجوروا وهو قول ابن عباس ، وقتادة ، وعكرمة .

وأصل العول الخروج عن الحد ، ومنه عول الفرائض لخروجها عن حد السهام المسمّاة ، وأنشد عكرمة بيتاً لأبي طالب :

بميزان قسط لا يَخيسُ شعيرةً *** ووازن صِدْقٍ وزنهُ غير عائل

أي غير مائل .

وكتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان قسطٍ لا أعول .