الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوۡمَ يَأۡتِيهِمُ ٱلۡعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرۡنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ نُّجِبۡ دَعۡوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَۗ أَوَلَمۡ تَكُونُوٓاْ أَقۡسَمۡتُم مِّن قَبۡلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٖ} (44)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وأنذر} يا محمد صلى الله عليه وسلم {الناس}، يعني كفار مكة، {يوم يأتيهم العذاب} في الآخرة، {فيقول الذين ظلموا}، يعني مشركي مكة، فيسألون الرجعة إلى الدنيا، فيقولون في الآخرة: {ربنا أخرنا إلى أجل قريب}؛ لأن الخروج من الدنيا إلى قريب، {نجب دعوتك} إلى التوحيد، {ونتبع الرسل}، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: {أولم تكونوا أقسمتم}، يعني حلفتم، {من قبل} في الدنيا إذا متم، {ما لكم من زوال} إلى البعث بعد الموت، وذلك قوله سبحانه في النحل: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل:38]...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وأنذر يا محمد الناس الذين أرسلتك إليهم داعيا إلى الإسلام ما هو نازل بهم، يوم يأتيهم عذاب الله في القيامة. "فَيَقُولُ الّذِينَ ظَلَمُوا "يقول: فيقول الذين كفروا بربهم، فظلموا بذلك أنفسهم: "رَبّنا أخّرْنا": أي أخّر عنا عذابك، وأمهلنا إلى "أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ" الحقّ، فنؤمن بك، ولا نشرك بك شيئا "وَنَتّبعِ الرّسُلَ" يقولون: ونصدّق رسلك فنتبعهم على ما دعوتنا إليه من طاعتك واتباع أمرك.

وقوله: "فَيَقُولُ الّذِينَ ظَلمُوا" رفع عطفا على قوله: "يَأَتيهمُ" في قوله: "يأْتيهمُ العَذَابُ"...

"أو لَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ"، وهذا تقريع من الله تعالى ذكره للمشركين من قريش بعد أن دخلوا النار بإنكارهم في الدنيا البعث بعد الموت، يقول لهم إذ سألوه رفع العذاب عنهم وتأخيرهم لينيبوا ويتوبوا: "أو لَمْ تَكُونُوا" في الدنيا "أقْسَمْتُمْ منْ قَبْلُ ما لَكُمْ منْ زَوَالٍ" يقول: ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، وأنكم إنما تموتون، ثم لا تبعثون؟...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

...إنما خصه بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب أيضاً لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي وإن تضمن ترغيباً للمطيع...

"رَبّنا أخّرْنا"... طلبوا رجوعاً إلى الدنيا حين ظهر لهم الحق في الآخرة ليستدركوا فارط ذنوبهم، وليست الآخرة دار توبة فتقبل توبتهم، كما ليست بدار تكليف فيستأنف تكليفهم...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أفسدوا في أول أُمورهم، وقصَّروا في الواجب عليهم، ولم يكن للخَلَلِ في أحوالهم جبران، ولا لعذرهم قبول لتصحَّ الحجة عليهم، فافتضح المجرم منهم، وخاب الكافر، وحقَّ الحكمُ عليهم...

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :

{فيقول الذين ظلموا} أي أشركوا...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

معنى {أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} ردّنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب، نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك. أو أريد باليوم: يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدّة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى، وأنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب، كقوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10]. {أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ} على إرادة القول، وفيه وجهان:

أن يقولوا ذلك بطرا وأشراً، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه،

وأن يقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأمّلوا بعيداً...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

فأنذرهم أهوال ذلك اليوم فإنه لا يبقى معهم فيه شيء مما هم فيه من الإباء والاستكبار {وأنذر} أي يا محمد {الناس} جميعاً، ما يحل بهم {يوم يأتيهم العذاب} وينكشف عنهم الغطاء بالموت أو البعث.

ولما كانوا عند إتيان العذاب قبل الموت لا ينكسرون بالكلية، بين أنهم إذ ذاك على غير هذا، فقال عاطفاً على "يأتيهم ": {فيقول الذين ظلموا} أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه منهم ومن غيرهم بسبب إتيانه من غير تمهل، وقد زال عنهم ما يفتخرون به من الأنفة والحمية والشماخة والكبر لما رأوا من الأهوال التي لا قبل لهم بها ولا صبر عليها: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق والتربية {أخرنا} أي أمهلنا {إلى أجل قريب} فإنك إن تؤخرنا إليه {نجب دعوتك} أي استدراكاً لما فرطنا فيه؛ والإجابة: القطع على موافقة الداعي بالإرادة {ونتبع} أي بغاية الرغبة {الرسل} فيقال لهم: إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، أولم تكونوا تقولون: إن عرى صبركم لا تنحل، وحد عزائمكم لا يفل؟ {أولم تكونوا} أي كوناً أنتم فيه في غاية المكنة {أقسمتم} أي جهلاً وسفهاً أو أشراً وبطراً.

ولما لم يكن وقت إقسامهم مستغرقاً للزمان قال: {من قبل} وبين الجواب المقسم عليه بقوله -حاكياً معنى قولهم لا لفظه- ليكون صريحاً في المراد من غير احتمال لتعنت لو قيل: ما لنا؟: {ما لكم} وأكد النفي فقال: {من زوال} عما أنتم عليه من الكفران وعدم الإذعان للإيمان، أو من هذه الدار إلى الدار الآخرة، أو من منازلكم التي أنتم بها، كناية عن ثبات الأمر وعدم المبالاة بالمخالف كائناً من كان.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

{فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ}.. والعدول إلى الإظهار مكان الإضمار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم، هذا إذا كان المراد بالناس: هم الكفار. وعلى تقدير كون المراد بهم: من يعمّ المسلمين، فالمعنى: فيقول الذين ظلموا منهم وهم الكفار {ربنا أخرنا}...

وقيل: إنه لا قسم منهم حقيقة. وإنما كان لسان حالهم ذلك لاستغراقهم في الشهوات، وإخلادهم إلى الحياة الدنيا. وقيل: قسمهم هذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله: {وَأَقْسَمُوا بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل).. وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب. كأنهم ماثلون شاخصون يطلبون. وكأننا في الآخرة وقد انطوت الدنيا وما كان فيها. فها هو ذا الخطاب يوجه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب، والتذكير بما فرط منهم في تلك الحياة: أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال؟...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون}، أي تَسَلّ عنهم ولا تملل من دعوتهم وأنذرهم.

والناس يعم جميع البشر. والمقصود: الكافرون، بقرينة قوله: {يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا}، ولك أن تجعل الناس ناساً معهودين وهم المشركون.

و {يوم يأتيهم العذاب}... وإتيان العذاب مستعمل في معنى وقوعه...

والعذاب: عذاب الآخرة، أو عذاب الدنيا الذي هُدّد به المشركون. و {الذين ظلموا}: المشركون.

وطلب تأخير العذاب إن كان مراداً به عذاب الآخرة فالتأخير بمعنى تأخير الحساب، أي يقول الذين ظلموا: أرجعنا إلى الدنيا لنجيب دعوتك. وهذا كما في قوله تعالى: {رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} [سورة المؤمنون: 99، 100]، فالتأخير مستعمل في الإعادة إلى الحياة الدنيا مجازاً مرسلاً بعلاقة الأول. والرسل جميع الرسل الذي جاءُوهم بدعوة الله.

وإن حمل على عذاب الدنيا فالمعنى: أن المشركين يقولون ذلك حين يرون ابتداء العذاب فيهم. فالتأخير على هذا حقيقة. والرسل على هذا المحمل مستعمل في الواحد مجازاً، والمراد به محمد.

والقريب: القليل الزمن. شبه الزمان بالمسافة، أي أخّرنا مقدار ما نجيب به دعوتك.

{أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ}

لما ذُكر قبل هذه الجملة طلب الذين ظلموا من ربهم تعين أن الكلام الواقع بعدها يتضمن الجواب عن طلبهم فهو بتقدير قول محذوف، أي يقال لهم. وقد عُدل عن الجواب بالإجابة أو الرفض إلى التقرير والتوبيخ لأن ذلك يستلزم رفض ما سألوه.

وافتتحت جملة الجواب بواو العطف تنبيهاً على معطوف عليه مقدر هو رفض ما سَألوه، حُذف إيجازاً لأن شأن مستحق التوبيخ أن لا يعطى سؤله. التقدير كلا وألَم تكونوا أقسمتم.. الخ.

والزوال: الانتقال من المكان. وأريد به هنا الزوال من القبور إلى الحساب.

وحذف متعلق {زوال} لظهور المراد، قال تعالى: {وأقسموا بالله جهَد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [سورة النحل: 38].

وجملة {ما لكم من زوال} بيان لجملة {أقسمتم}. وليست على تقدير قول محذوف ولذلك لم يسرع فيها طريق ضمير المتكلم فلم يقل: ما لنا من زوال، بل جيء بضمير الخطاب المناسب لقوله: {أولم تكونوا أقسمتم}.

وهذا القسم قد يكون صادر من جميع الظالمين حين كانوا في الدنيا لأنهم كانوا يتلقون تعاليم واحدة في الشرك يتلقاها الخلف عن سلفهم.

ويجوز أن يكون ذلك صادراً من معظم هذه الأمم أو بعضها ولكن بقيتهم مضمرون لمعنى هذا القسم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} على كفرهم وعصيانهم وتمردهم، وانحرافهم عن طريق الله، فيحاولون الهروب منه بأية طريقةٍ ممكنةٍ، ويعملون على تفادي مواجهة هذا الواقع الصعب، ملتمسين لأنفسهم الأعذار والمبرّرات، ويطلبون من الله المهلة التي تتيح لهم إمكانية التراجع عن الخط المنحرف الذي ساروا فيه، ليستقيموا من جديد على خط الله ورسله، {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}، لأن المسألة لم تكن واضحةً في السابق عندما كنا في الدنيا كما هي واضحة الآن. لقد كنا في غفلةٍ عن هذا، في ما كنا نخوض فيه من مطامعنا وعلاقاتنا وشهواتنا التي كانت تحجب عنا وضوح الرؤية للأشياء، فلتكن لنا مهلةٌ جديدة، وليس من الضروري أن تكون طويلة، لندلّل بها على صدق إيماننا وصحة نظرتنا الجديدة للأمور، وسلامة موقفنا في السير على الخط المستقيم، ولكن الله يرد عليهم ذلك، أن الغفلة لم تكن حالةً لا إراديّة في حياتهم، بل كانت حالةً متعمّدةً للهروب من الحقائق الواضحة، ومن مناقشتها بوعي وإخلاص، كما يريد الله لهم أن يناقشوها. وهذا ما أكده إنكارهم لليوم الآخر الذي عبروا عنه بتشديد النفي، باليمين المغلّظ الذي كانوا يؤكدون فيه خلودهم {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} فهل كانت المسألة صادرة عن حالة اللاّوعي، أو عن حالة وعي يدرك طبيعة الأمور ولكنه يهرب منها ويتمرّد عليها؟! ذلك أن الأمور التي تذكركم بزوالكم من الدنيا موجودة...