الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا} (85)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

{ويسألونك عن الروح}... ابن العربي: قال ابن وهب عن مالك: لم يأته في ذلك جواب...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي؟ قل لهم:"الروح من أمر ربي"، "وما أوتيتم "أنتم وجميع الناس "من العلم إلا قليلاً".

وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها، كانوا قوما من اليهود... واختلف أهل التأويل في الروح الذي ذُكِر في هذا الموضع ما هي؟

فقال بعضهم: هي جبرئيل عليه السلام...

وقال آخرون: هي مَلك من الملائكة... وقد بيّنا معنى الرّوح في غير هذا الموضع من كتابنا، بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: "منْ أمْرِ رَبّي "فإنه يعني: أنه من الأمر الذي يعلمه الله عزّ وجلّ دونكم، فلا تعلمونه ويعلم ما هو.

وأما قوله: "وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً" فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ بقوله "وَما أُوتِيتُمْ منَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً"؛ فقال بعضهم: عنى بذلك: الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم، ولكن لما ضمّ غير المخاطب إلى المخاطب، خرج الكلام على المخاطبة، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتمع في الكلام مخبر عنه غائب ومخاطب، أخرجوا الكلام خطابا للجمع...

وقال آخرون: بل عنى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم... عن قتادة "وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً" يعني: اليهود.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: خرج الكلام خطابا لمن خوطب به، والمراد به جميع الخلق، لأن علم كلّ أحد سوى الله، وإن كثر في علم الله قليل. وإنما معنى الكلام: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلاّ قليلاً من كثير مما يعلم الله.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} (اختلف فيه: قال أبو بكر الأصم: الروح القرآن ههنا كقوله: {ينزل الملائكة بالروح من أمره} (النحل: 2) وكذلك قوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} الآية (الشورى: 52) {قل الروح من أمر ربي} أي من تدبير ربي، ما لو اجتمع الخلائق ما قدروا على مثله...

{قل الروح من أمر ربي} أي بأمر ربي يَنْزِل...

وقال بعضهم: الروح هو الملك، وإنما سألوه عنه كقوله: {تتنزل الملائكة والروح فيها} (القدر: 4) يعني المَلَكَ...

وقال بعضهم: إنما سألوه عن الروح المعروف الذي به حياة الأبدان، لكنه لم يجبهم، فوكل أمره إلى الله لما لا يدركون ذلك، لو بين لهم وأمثاله...

{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}:

قال بعضهم: أي ما أوتيتم من العلم الذي به مصالحكم، وما جاءكم إلا قليلا.

وقال بعضهم: أي ما أوتيتم من العلم الذي عنده إلا قليلا...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

... إنما أراد روح الحيوان؛ وهو ظاهر الكلام... وقيل: إنه لم يجبهم لأن المصلحة في أن يوكلوا إلى ما في عقولهم من الدلالة عليها للارتياض باستخراج الفائدة...

وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} يعني: ما أعطيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلاً من كثير بحسب حاجتكم إليه، فالروح من المتروك الذي لا يصلح النصُّ عليه للمصلحة...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

عن ابن عباس برواية عطاء «أن قريشا اجتمعت وقالوا: إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق، وما اتهمناه بكذب، وقد ادعى ما ادعى، فابعثوا بنفر إلى اليهود، واسألوهم عنه، فبعثوا بقوم إلى المدينة؛ ليسألوا يهود المدينة عنه، فذهبوا وسألوهم، فقالوا: سلوه عن ثلاثة أشياء: إن أجاب عن اثنين، ولم يجب عن الثالث، فهو نبي، وإن أجاب عن الثلاث، أو لم يجب عن شيء من الثلاثة فليس بنبي، سلوه عن ذي القرنين، وعن فتية فقدوا في الزمن الأول، وعن الروح، -وأرادوا بالذي لا يجيب عنه الروح- فرجعوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد اجتمعت قريش فقال: سأجيبكم غدا. ولم يقل: إن شاء الله، فتلبث الوحي أربعين يوما لما أراد الله تعالى، ثم إنه نزل بعد أربعين يوما قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) ونزل الوحي بقصة (أصحاب) الكهف وقصة ذي القرنين، ونزل بالروح قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)... وأصح الأقاويل: أن الروح ها هنا هو الروح الذي يحيا به الإنسان، وعليه أكثر المفسرين... وأولى الأقاويل في الروح أن يوكل علمه إلى الله. ويقال: هو معنى يحيا به الإنسان لا يعلمه إلا الله...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان. سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله، أي مما استأثر بعلمه...

{مِنْ أَمْرِ رَبّي} أي من وحيه وكلامه، ليس من كلام البشر...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الضمير في {يسألونك} قيل هو لليهود وإن الآية مدنية... قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقيل الآية مكية والضمير لقريش... واختلف الناس في {الروح} المسؤول عن أي روح هو؟ فقالت فرقة هي الجمهور: وقع السؤال عن الروح التي في الأشخاص الحيوانية ما هي؟ ف {الروح} اسم جنس على هذا، وهذا هو الصواب، وهو المشكل الذي لا تفسير له...

وقوله {من أمر ربي} يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون «الأمر» اسم جنس للأمور أي للروح من جملة أمور الله التي استأثر بعلمها، فهي إضافة خلق إلى خالق، والثاني أن يكون مصدراً من أمر يأمر أي الروح مما أمره أمراً بالكون فكان... واختلف فيمن خوطب بذلك، فقالت فرقة: السائلون فقط، ترجم الطبري بذلك ثم أدخل تحت الترجمة عن قتادة أنهم اليهود، وقال قوم: المراد اليهود بجملتهم، وعلى هذا هي قراءة ابن مسعود، وقالت فرقة: العالم كله، وهذا هو الصحيح لأن قول الله له {قل الروح} إنما هو أمر بالقول لجميع العالم إذ كذلك هي أقواله كلها وعلى ذلك تمت الآية من مخاطبة الكل، ويحتمل أيضاً أن تكون مخاطبة من الله للنبي ولجميع الناس ويتصف ما عند جميع الناس من العلم بالقلة بإضافته إلى علم الله عز وجل الذي هو بهذه الأمور التي عندنا من علمها طرف يسير جداً...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الْخَلْقِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَلَا يُفِيضُونَ مَعَهُمْ فِي الْمُشْكِلَاتِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيِّنِ من الْأُمُورِ الْمَعْقُولَاتِ، وَالرُّوحُ خَلْقٌ من خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْأَجْسَامِ، فَأَحْيَاهَا بِهِ، وَعَلِمَهَا وَأَقْدَرَهَا، وَبَنَى عَلَيْهَا الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةَ، وَالْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ، وَقَابَلَهَا بِأَضْدَادِهَا لِنُقْصَانِ الْآدَمِيَّةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ إنْكَارَهَا لَمْ يَقْدِرْ لِظُهُورِ آثَارِهَا، وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهَا وَهِيَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ؛ لِأَنَّهُ قَصُرَ عَنْهَا وَقَصُرَ بِهِ دُونَهَا. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَ ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةً، كَمَا قَالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} لِيَرَى أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَا يُقْدَرُ عَلَى جَحْدِهِ لِظُهُورِ آيَاتِهِ فِي أَفْعَالِهِ... وَلَا يُحِيطُ بِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ، فَإِذَا وَقَفَ مُتَفَكِّرًا فِي هَذَا نَادَاهُ الِاعْتِبَارُ: لَا تَرْتَبْ، فَفِيك من ذَلِكَ آثَارٌ، اُنْظُرْ إلَى مَوْجُودٍ فِي إهَابِك لَا تَقْدِرُ عَلَى إنْكَارِهِ لِظُهُورِ آثَارِهِ، وَلَا تُحِيطُ بِمِقْدَارِهِ، لِقُصُورِك عَنْهُ فَيَأْخُذُهُ الدَّلِيلُ، وَتَقُومُ لِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْهِ...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

ولقد كثر اختلاف الناس في النفس والروح، وليس في أقوالهم في ذلك ما يعول عليه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما بين سبحانه -بعد التعجيب من إنكارهم البعث- جهل الإنسان، وما هو عليه من الضلال والنسيان، إلا من فضله على أنباء نوعه كما فضل طينته على سائر الطين، وختم بآية المشاكلة التي منها مشاكلة بعض الأرواح لبعض ومشاكلتها للطباع، وبان بذلك أنه سبحانه وتعالى قادر على فعل ما يشاء عالم بكل معلوم، رجع إلى التعجب منهم بما هو من شأن الأرواح التي من شأنها التشاكل فقال تعالى عاطفاً على {وقالوا إذا كنا عظاماً}: {ويسألونك} أي تعنتاً وامتحاناً {عن الروح} الذي تقدم أنها تعاد إلى أجسادهم يوم البعث ولو كانوا حجارة أو حديداً: ما هي؟ هل هي جسم أم لا؟ وهل هي متولدة من امتزاج الطبائع التي في البدن أم امتزاجه مبتدأ؟ وهل هي قديمة أم حادثة؟ ولما كان ذلك تعنتاً، مع أنه لا يفتقر إليه في صحة اعتقاده، أمره بأن يجيبهم عنه بما يليق بحالهم بقوله تعالى: {قل الروح} أي هذا النوع الذي تصير به الأجسام حية {من أمر ربي} أضافها إلى الأمر وهو الإرادة وإن كانت من جملة خلقه، تشريفاً لها وإشارة إلى أنه لا سبب من غيره يتوسط بينها وبين أمره، بل هو يبدعها من العدم، أو يقال -وهو أحسن: إن الخلق قسمان: ما كان بتسبيب وتنمية وتطوير، وهو الذي يترجم في القرآن بالخلق، والثاني ما كان إخراجاً من العدم بلا تسبيب ولا تطوير، وهو المعبر عنه بالأمر، ومنه هذه الروح المسؤول عنها وكل روح في القرآن، وكذا ما هو للحفظ والتدبير كالأديان، والجامع لذلك القيومية كما مضى عن الحرالي عند روح القدس في البقرة، فأفادت هذه العبارة أنها محدثة، وأنها غير مطورة ولا مسببة...

وأمسك السلف عن الإمعان في الكلام على الروح أدباً، لأنهم علموا أن في عدم الجواب لسؤالهم بغير هذا إشارة إلى أن السكوت عنه أولى لهم. ثم أتبعه التنبيه على جهلهم لتعكيسهم في الأسئلة بتركهم الإقبال على ما لا يفهمونه بلا شك وينفعهم في الدارين من هذا الروح المعنوي وهو القرآن، وإقبالهم على ما لا يفهمونه من الروح المحسوس لقلة علمهم، ومن فهمه منهم لا يفهمه إلا بعسر عظيم، وفيه أسئلة كثيرة جداً لا برهان على أجوبتها، منها أنه متحيز أم لا؟ وأنه مغاير للنفس أم لا؟ وهل تبقى بعد الموت أم لا؟ فعلمنا به أنه إنما هو على الإجمال، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه، فإن أكثر حقائق الأشياء مجهولة، وهي موجودة...

وليس وراء العلم بما سألوا عنه من الروح بعد فهمه من الفائدة ما لذلك الذي تركوه ولا قريب منه، فقال تعالى دالاً على حدوثه بتغيره، فإنه يكون في المبدأ جاهلاً ثم يحدث له العلم شيئاً بعد شيء، وكل متغير حادث: {وما أوتيتم} أي من أيّ مؤت كان بعد أن كنتم لا تعلمون شيئاً {من العلم} أي مطلق هذه الحقيقة، فكيف بالمشكل منها {إلا قليلاً} ومما تجهلونه أمور ضرورية لكم، لأن تماديكم على الجهل بها سبب لهلاككم في الدارين، فمن أجهل الجهل وأضل الضلال أن تسألوا عما لا يضركم الجهل به، ويتوقف إثباته على أمور دقيقة، ومقدمات صعبة، وتتركوا ما يضركم الجهل به في الدين والدنيا، مع كونه في غاية الوضوح، لكثرة ما قام عليه من الأدلة، وله بحضرتكم من الأمثلة، والذي سألتموه منزه عن الغش والضيق، فهو ينبهكم على عبثكم نصيحة لكم ويعدل عن جوابكم عنه إلى ما ينفعكم رفقاً بكم، ولفهم هذا سكت السلف عن الخوض في أمره، والخطاب لليهود والعرب، أما العرب فواضح، وأما اليهود فإنهم وإن كانوا أهل الكتاب فذلك إشارة إلى تلاشي علمهم في جنب علم الله؛ كما ستأتي الإشارة إليه بقول الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام في العصفور الذي نقر من البحر نقرة أو نقرتين، فحيث ورد تعظيم علم أحد وتكثيره فهو بالنسبة إلى غيره من الخلق، وحيث ورد تقليله- كما في هذه الآية -فهو من حيث إضافته إلى علم الله تعالى، وهذه الآية ورد في سبب نزولها ما يظن أنه متناقض، فإنه روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة، فسأله اليهود عن الروح فأوحى إليه، فلما انجلى عنه الوحي تلا عليهم- الآية.

وفي السيرة الهشامية والدلائل للبيهقي وتفسير البغوي وغيره من التفاسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشاً أرسلت إلى اليهود قبل الهجرة تسألهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عند قريش، فأمروهم أن يسألوه عن الروح، وعن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"أخبركم بما سألتم عنه غداً" -ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث فيما يذكرون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، حتى أرجف به أهل مكة، وحتى حزن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، وروي أيضاً أن لبث الوحي كان أربعين ليلة. وروي: اثنتي عشرة ليلة، وفي مسند أبي يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل! فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، ونزلت {ويسألونك}- الآية. وليس ذلك وأمثاله بحمد الله بمشكل، فإنه محمول على أنه نزل للسبب الأول، فلما سئل عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثانياً لم يجب فيه بالجواب الأول، إما لرجاء أن يؤتى بأوضح منه، أو خشية أن يكون نسخ -أو نحو ذلك لأمر رآه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيعيد الله سبحانه إنزاله عليه تثبيتاً له وإعلاماً بأنه هو الجواب، وفيه مقنع، وفي تأخير الجواب في هذا الأمر برهان قاطع لقريش وكل من له أدنى لب على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أن هذا القرآن من عند الله، لا يقدر عليه غيره، لأنه لو كان قادراً على الإتيان بشيء منه من عند نفسه أو من عند أحد من الخلق لبذل جهده في ذلك، تنزيهاً لنفسه الشريفة، وهمته المنيفة، وعرضه الطاهر، عن مثل ما خاضوا فيه بسبب إخلاف موعدهم.

ولما كانت الروح من عالم الأمر الذي هو من سر الملكوت، ضمت إلى سورة الإسراء الذي هو من أبطن سر الملكوت لاسيما بما علا به من المعراج الذي جعل لغرابته كالرؤيا {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} ولذلك فصلت عن السؤالين الآخرين، لأنهما من عالم الملك...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل، التي لا يقصد بها إلا التعنت والتعجيز، ويدع السؤال عن المهم، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد. ولهذا أمر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من جملة مخلوقاته، التي أمرها أن تكون فكانت، فليس في السؤال عنها كبير فائدة، مع عدم علمكم بغيرها. وفي هذه الآية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر، الأولى بالسائل غيره أن يعرض عن جوابه، ويدله على ما يحتاج إليه، ويرشده إلى ما ينفعه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع؛ ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف -الروح- لا يدري ما هو، ولا كيف جاء، ولا كيف يذهب، ولا أين كان ولا أين يكون، إلا ما يخبر به العليم الخبير في التنزيل...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقْعُ هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمُه أن مرجع ضمير {يسألونك} هو مرجع الضمائر المتقدمة، فالسائلون عن الروح هم قريش... هذا، والذي يترجح عندي: أن فيما ذكره أهلُ السير تخليطاً، وأن قريشاً استقوا من اليهود شيئاً ومن النصارى شيئاً فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شؤون النصارى، بناءً على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف، وكذلك قصة ذي القرنين... وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف. على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شأن الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس... والروح: يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنيناً بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوماً. وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [ص: 72]. وهذا يسمى أيضاً بالنفس كقوله: {يا أيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27]. ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] وقوله: {وروح منه} [النساء: 171]. ويطلق لفظ (الروح) على المَلك الذي ينزل بالوحي على الرسل. وهو جبريل عليه السلام ومنه قوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء: 193]...

واختلف المفسرون في الروح المسؤول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة. فالجمهور قالوا: المسؤول عنه هو الروح بالمعنى الأول، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالاً عن معنى مصطلح قرآني. وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

و (الروح) لها إطلاقات متعددة، منها: الروح التي تمد الجسم بالحياة إن اتصلت به، كما في قوله تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين "29 "} (سورة الحجر): فإذا ما فارقت هذه الروح الجسد فقد فارق الحياة، وتحول إلى جثة هامدة، وفيها يقول تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم "83 "} (سورة الواقعة).

وقد تأتي الروح لتدل على أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما في قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين "193 "} (سورة الشعراء).

وقد تطلق الروح على الوحي ذاته، كما في قوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" 52 "}

(سورة الشورى).

وتأتي بمعنى التثبيت والقوة، كما في قوله تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.. "22 "} (سورة المجادلة).

وأطلقت الروح على عيسى ابن مريم عليه السلام في قوله تعالى: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.." 171 "} (سورة النساء).

إذن: لهذه الكلمة إطلاقات متعددة، فما العلاقة بينها؟

قالوا: الروح التي بها حركة الحياة إذا وجدت في الإنسان تعطي مادية الحياة، ومادية الحياة شيء، وقيم الحياة شيء آخر، فإذا ما جاءك شيء يعدل لك قيم الحياة فهل تسميه روحاً؟ لا، بل هو روح الروح؛ لأن الروح الأولى قصاراها الدنيا، لكن روح المنهج النازل من السماء فخالدة في الآخرة، فأيهما حياته أطول؟

لذلك فالحق سبحانه ينبهنا: إياك أن تظن أن الحياة هي حياتك أنت وكونك تحس وتتحرك وتعيش طالما فيك روح، لا بل هناك روح أخرى أعظم في دار أخرى أبقى وأدوم: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون "64 "} (سورة العنكبوت): لأن الروح التي تعيش بها في الدنيا عرضة لأن تؤخذ منك، وتسلب في أي مرحلة من مراحل حياتك منذ وجودك جنيناً في بطن أمك، إلى أن تصير شيخاً طاعناً في السن.. أما روح الآخرة، وهي روح القيم وروح المنهج، فهي الروح الأقوى والأبقى؛ لأنها لا يعتريها الموت.

إذن: سمي القرآن، وسمي الملك النازل به روحاً؛ لأنه سيعطي حياة أطول هي حياة القيم في الآخرة.

وهنا يقول تعالى: {قل الروح من أمر ربي}: أي: أن هذا من خصوصياته هو سبحانه، وطالما هي من خصوصياته هو سبحانه، فلن يطلع أحداً على سرها. وهل هي جوهر يدخل الجسم فيحيا ويسلب منه فيموت، أم هي مراد (بكن) من الخالق سبحانه، فإن قال لها كن تحيا، وإن قال مت تموت؟

إن علم الإنسان سيظل قاصراً عن إدراك هذه الحقيقة، وسيظل بينهما مسافات طويلة؛ لذلك قال تعالى بعدها: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.

وهل عرف العقل البشري كل شيء حتى يبحث في أسرار الروح؟!...

والحق سبحانه وتعالى حينما يعطينا فكرة عن الأشياء لا يعطينا بحقائق ذاتها وتكوينها؛ لأن أذهاننا قد لا تتسع لفهمها، وإنما يعطينا بالفائدة منها... فعلى المسلم بدل أن يشغل تفكيره في مثل مسألة الروح هذه، أن ينشغل بعمل ذي فائدة له ولمجتمعه. وأي فائدة تعود عليك إن توصلت إلى سر من أسرار الروح؟ وأي ضرر سيقع عليك إذا لم تعرف عنها شيئاً؟

إذن: مناط الأشياء أن تفهم لماذا وجدت لك، وما فائدتها التي تعود عليك. والحق سبحانه حينما قال:

{وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}: كان يخاطب بها المعاصرين لرسول الله منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، ومازال يخاطبنا ويخاطب من بعدنا، وإلى أن تقوم الساعة بهذه الآية مع ما توصلت إليه البشرية من علم وكأنه سبحانه يقول: يا ابن آدم، الزم غرزك، فإن وقفت على سر فقد غابت عنك أسرار. وقد أوضح الحق سبحانه لنا هذه المسألة في قوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.." 53 "} (سورة فصلت).

وهاهم العلماء والباحثون يقفون كل يوم على جديد في الكون الفسيح وفي الإنسان، ولو تابعت ما توصل إليه علماء الفضاء ورجال الطب لهالك ما توصلوا إليه من آيات وعجائب في خلق الله تعالى، لكن هل معنى ذلك أننا عرفنا كل شيء؟ إن كلمة (سنريهم) ستظل تعمل إلى قيام الساعة...