السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا} (85)

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : { ويسألونك } أي : تعنتا وامتحانا { عن الروح } فعن عبد الله بن مسعود قال بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عسيب معه فمرَّ بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض اسألوه عن الروح وقال بعضهم : لا تسألوه لا يجيء بشيء تكرهونه فقال بعضهم : لنسألنّ فقام رجل منهم فقال : يا أبا القاسم ما الروح ؟ فسكت فقلت أنه يوحى إليه فقمت فلما انجلى عنه قال : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } قال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه . وقال ابن عباس : إنّ قريشاً اجتمعوا فقالوا : إنّ محمداً نشأ فينا بالصدق والأمانة وما اتهمناه بكذب وقد ادّعى ما ادّعى فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود : سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبيّ وإن أجاب عن اثنين فهو نبيّ فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأوّل ما كان أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب . وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها وعن الروح فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : أخبركم بما سألتم غداً ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي . قال مجاهد : اثنى عشر ليلة وقيل خمسة عشر يوماً وقيل أربعين يوماً وأهل مكة يقولون وعدنا محمد غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى : { ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً 23 إلا أن يشاء الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] . ونزل في الفتية : { أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } [ الكهف ، 9 ] . ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب { ويسألونك عن ذي القرنين } [ الكهف : 83 ] ونزل في الروح : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } . وقول الرازي : ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه ، وذكر من جملة ذلك كيف يليق به أن يقول إني لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة مع جمهور الخلق غير لائق لأنّ ذلك علامة على نبوّته . قال الزمخشري : فبيّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم انتهى . واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه ، فروى عن ابن عباس أنه جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة ، وروي عن علي أنه قال : ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها . وقال مجاهد : خلق على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام . وقال سعيد بن جبير : لم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش ، لو شاء أن يبتلع السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهنّ بلقمة واحدة لفعل ، صورة خلقه على صورة الملائكة ، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين يقوم يوم القيامة على يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى عند الحجب السبعين وأقرب إلى الله تعالى وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ولولا أنّ بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السماوات من نوره . وقيل الروح هو القرآن وقيل المراد منه عيسى فإنه روح الله تعالى وكلمته ومعناه أنه ليس كما تقوله اليهود ولا كما تقوله النصارى . وقال بعضهم : هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان . قال البغوي : وهو الأصح وتكلم فيه قوم فقال بعضهم : هو الدم ألا ترى أنّ الحيوان إذا مات لا يفوت منه إلا الدم . وقال قوم : هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس . وقال قوم : عرض . وقال قوم : هو جسم لطيف . وقال بعضهم : الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء ألا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات وإذا خرج ذهب الكل . قال البغوي : وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل ، وهو قول أهل السنة . قال عبد الله بن بريدة : إنّ الله تعالى لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } أي : في جنب علم الله تعالى .

تنبيه : اختلف في المخاطب بقوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } فقيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل اليهود فإنهم يقولون : أوتينا التوراة وفيها العلم الكبير وقيل عام . روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال : «نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً » . فقالوا : ما أعجب شأنك ساعة تقول { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة ، 269 ]

وساعة تقول : هذا فنزلت . { ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه } [ لقمان ، 27 ] الآية قال الزمخشري : وليس ما قالوا بلازم لأنّ القلة والكثرة يدوران مع الإضافة فيوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه ، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته ، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة . وقيل : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك أخباره كان علماً لنبوّته . قال البغوي : والأوّل أصح أنّ الله استأثره بعلمه انتهى . وعن أبي يزيد لقد مضى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح . وقال الرازي : قوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أنّ الروح قديمة أو حادثة فقال : بل هي حادثة ، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ، ثم احتج على إحداث الروح بقوله : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } بمعنى أنّ الروح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم تحصل المعارف والعلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال إلى حال ، وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغير والتبدّل من أمارات الحدوث . فقوله : { قل الروح من أمر ربي } يدل على أنهم سألوه أنّ الروح هل هي حادثة أو قديمة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله تعالى وتكوينه وهو المراد من قوله تعالى : { قل الروح من أمر ربي } . ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال ، وهو المراد بقوله : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } فهذا ما نقوله في هذا الباب انتهى . وهو نص لطيف .