[ 85 ] { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا 85 } .
{ ويسألونك عن الروح } قال القاشانيّ : أي الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره : { قل الروح من أمر ربي } أي ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهرين البدنيين ، الذي لا يتجاوز إدراكهم الحس والمحسوس ، بالتشبيه ببعض ما شعروا به ، والتوصيف . بل من عالم الأمر ، أي الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولي ، والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين . فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون ، لقصور إدراككم وعلمكم عنه : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } هو علم المحسوسات . وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله تعالى والراسخين في العلم هذا ما قاله القاشانيّ وحاصل الجواب عليه : أن الروح موجود محدث بأمره تعالى بلا مادة ، وتولد من أصل كأعضاء الجسد ، / حتى يمكن تعريفه ببعض مبادئه ، بل هو من عالم الأمر لا من عالم الخلق . فيكون الاقتصار في الجواب على قوله : { قل الروح من أمر ربي } كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون { وما رب العالمين } {[5453]} على قوله{[5454]} : { رب السماوات والأرض } إعلاما بأن إدراكه بالكنه على ما هو عليه ، لا يعلمه إلا الله تعالى . وأنه شيء بمفارقته يموت الإنسان . وبملازمته له يبقى . كما أومأ قوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } أي علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس . وهو هذا القدر الإجماليّ .
قال الشهاب : والسؤال على هذا عن حقيقتها . والجواب إجماليّ بأنها من المبدعات من غير مادة . ولذا قيل : إنه من الأسلوب الحكيم . كما في قوله{[5455]} : { يسألونك عن الأهلّة } إشارة إلى أن حقيقتها لا تعلم ، وإنما يعلم منها هذا المقدار . فالمراد ب ( الأمر ) على هذا التفسير ( قول كن ) ولذا قالوا لمثله : عالم الأمر . انتهى .
قال أبو السعود عليه الرحمة : وليس هذا من قبيل قوله سبحانه{[5456]} : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين . سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق . بل إنه من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكوينيّ من غير تحصل من مادة . وحكى ، عليه الرحمة ، قولا آخر وهو : أن الأمر بمعنى الشأن . قال : والإضافة الاختصاص العلميّ لا الإيجادي ، لاشتراك الكل فيه . وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى . كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه . أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر . وعليه ، ف ( من ) بيانية أو تبعيضية . ويكون نهيا لهم عن السؤال عنها ، وتركا للبيان . وهذا رأي كثيرين . أمسكوا عن الخوض فيها ، قالوا : إنها شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحدا ن خلقه . فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود ، بل غلا بعضهم وقال : إن الإفاضة في بحث الروح بدعة في الدين . إذ لم يبينه الله لرسوله بأكثر مما في الآية . فالاشتغال بالتفتيش عنه غلوّ فيما لم يرد به قرآن ولم يقم عليه برهان ، وما كان كذلك فهو عناد .
وأجاب الخائضون في بحثها ؛ بأن الآية لا يدل معناها على ما ذكر دلالة قطعية ، ولا دلالة فيها على المنع من الخوض فيها ، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها . وغاية الأمر أنه أمر بترك الجواب عنها تفصيلا . إما لأن الإمساك عن ذلك كان عند اليهود السائلين عنها ، ومن دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ، أو لأن سؤالهم كان تعنتا . فإنها تطلق على معان : منها الراحة وبرد النسيم . وعلى جبريل والقرآن وعيسى عليه السلام والحياة والقلب والرحمة وغير ذلك . فأضمروا على أنه إذا أجاب بأحد هذه الأمور ، قالوا : لم نرده ، وإنما أردنا كذا .
ثم الأقاويل فيها من الحكماء والعلماء الأقدمين مختلفة . ولا يتم الجواب في محل الخلاف . فأوتي بالجواب مجملا على وجه يصدق على كل من ذلك مرموزا ، ليعلمه العلماء بالله . واقتضت المصلحة العامة منع الكلام فيه لغيرهم . لأن الأفهام لا تحتمله . خصوصا على طريقة الحكماء إذ من غلب على طبعه الجمود لا يقبله ولا يصدق به في صفة الباري . فكيف يصدق به في حق الروح الإنسانيّ . بل قال بعض المدققين : إن في الآية الجواب ببيان حقيقتها ، وأنها من إبداعاته الكائنة بتكوينه ، من غير سبق مادة وهو ما ذكرناه أولا وفي الجواب بذلك ما فيه الكفاية لذوي البصائر والدراية . ومقنع لمن كان في النزاع ، إذا فصل ، مطمع . وقد استحسن بعضهم هذا الجواب وقال مذيلا له : فيكون قوله : { قل الروح من أمر ربي } على أن السؤال عن حقيقتها مطابقا- إلا أنه إجمالي . أي من الممكنات التي يمكن الوقوف على حقائقها ، وإن كان بإعمال روية وإيقاظ فكر كباقي عالم الأمر . وعلى أن السؤال عن قدمها وحدوثها كذلك . إلا أنه تفصيلي . وأيّا ما كان ، فلم يترك / بيانها . ولو كانت مما لا سبيل إلى معرفته لقيل : { قل إنما علمها عند ربي } كما قيل في الساعة ، أو نحو ذلك . بل لو لم يكن السبيل لمعرفته ، ولو بوجه ما ، متيسّرا لكثير من الناس ، لم يكن لأمره بالتفكر فيها . والتبصّر في أمرها ، للاستدلال بها عليه ، والتوصل بواسطة معرفتها إليه ، الذي هو الغاية القصوى والثمرة العظمى من فائدة . بل كان عبثا . فدل قوله تعالى{[5457]} : { أو لم يتفكروا في أنفسهم } وقوله{[5458]} : { وفي أنفسكم ، أفلا تبصرون } ونحو ذلك ، أنها أمر تدركه العقول ، وبه يكون إليه تعالى الوصول .
ثم إن الذين خاضوا في البحث عنها ، أثرت عنهم أقوال شتى . وقد أفردت لذلك تآليف قديمة وحديثة ، والذي يهمنا معرفته ما عول عليه الأئمة المدققون ، الذين نقبوا عن أقوال المتقدمين ، ونقدوها بمحك الكتاب والسنة ، فنبذوا ما يخالفهما وتمسكوا بما يوافقهما .
فمنهم الإمام ابن حزم . قال رحمه الله في كتابه : ( الملل والنحل ) بعد سرد مذاهب شتى : وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد ، إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان . عاقلة مميزة مصرّفة للجسد . قال : وبهذا نقول . والنفس والروح اسمان لمسمى واحد ، ومعناهما واحد . ثم قال : وأما من ذهب إلى أن النفس ليس جسما ، فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة . فأما القرآن ، فإن الله عز وجل قال{[5459]} : { هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت } وقال تعالى{[5460]} : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم } وقال تعالى{[5461]} : { كل امرئ بما كسب رهين } فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجزية المخطئة . وقال تعالى{[5462]} : { إن النفس لأمارة بالسوء } وقال تعالى{[5463]} : { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } . وقال تعالى{[5464]} : { ولا تقولوا لمن يقتل / في سبيل الله أموات ، بل أحياء ولكن لا تشعرون } وقال تعالى{[5465]} : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله } فصح أن الأنفس ، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة ، فيعذب . ومنها ما يرزق وينعم فرحا ، ويكون مسرورا قبل يوم القيامة . ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله ، قد تقطعت أوصالها وأكلها السباع والطير وحيوان الماء . فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان . ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحسّ ، فليست عرضا . وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها ، وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به ، فصح ، ضرورة ، أنها جسم .
وأما من السنن فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5466]} : " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة " وقوله صلى الله عليه وسلم{[5467]} : إنه " رأى نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره " فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها ، وقوله عليه السلام{[5468]} : " إن نفس المؤمن إذا قبضت ، عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا . ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا " فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن ، وهذه صفة الأجسام ضرورة
وأما من الإجماع ، فلا اختلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها من الأجساد ، إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب . وهذه صفة الأجسام .
ثم قال : ومعنى قول الله تعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } / إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظما ثم لحما ثم أمشاجا . وليس الروح كذلك . وإنما قال الله تعالى آمرا له بالكون { كن فيكون } . فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد ، وقد يقع الروح أيضا على غير هذا . فجبريل عليه السلام الروح الأمين . والقرآن روح من عند الله .
وقال ابن حزم أيضا ، قبل ذلك ، في بحث عذاب القبر : والذي نقول به في مستقر الأرواح ، هو ما قاله الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لا نتعداه . فهو البرهان الواضح وهو أن الله تعالى قال{[5469]} : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } وقال تعالى{[5470]} : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة ، وهي الأنفس . وكذلك أخبر عليه السلام{[5471]} : " إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " وهي العاقلة ، الحساسة وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة ، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم ، على جميعهم السلام . وقبل أن يدخلها في الأجساد . والأجساد يومئذ تراب وماء . ثم أقرّها تعالى حيث شاء . لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة { ثم } التي توجب التعقيب والمهلة . ثم أقرها عز وجل حيث شاء . وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت . لا تزال يبعث منها الجملة ، بعد الجملة . فينفخها في الأجساد المتولدة من المني ، المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء . كما قال تعالى{[5472]} : { ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم / كان علقة فخلق فسوّى } وقال عز وجل{[5473]} : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين *ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما } الآية وكذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5474]} أنه : " يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح " فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء . ثم يتوفاهم فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا : أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه الصلاة والسلام ، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عليه السلام . وذلك عند منقطع العناصر ، وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة .
وقد ذكر محمد بن نصر المروزيّ عن إسحاق بن راهويه ، أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه ، وقال : على هذا أجمع أهل العلم .
ثم قال ابن حزم : ولا تزال الأرواح هنالك ، حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور . فتقوم الساعة . ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد . وهي الحياة الثانية . ويحاسب الخلق : فريق في الجنة وفريق في السعير ، مخلدين أبدا ، انتهى .
ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ، عليه الرحمة ، قال في : ( تفسير سورة الإخلاص ) بعد أن ذكر نزاع المتكلمين المتفلسفة في الملائكة . هل هي متحيزة أم لا ؟ وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت ، على قول الجمهور الذين يقولون : هي عين قائمة بنفسها ليست عرضا من أعراض البدن كالحياة وغيرها . ولا جزءا من أجزاء / البدن كالهواء الخارج منه . فإن كثيرا من المتكلمين زعموا أنها عرض قائم بالبدن ، أو جزء من أجزاء البدن . لكن هذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف . ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم . ومخالف للأدلة ، وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام .
قال القاضي : أبو بكر : أكثر المتكلمين على أن الروح عرض من الأعراض . وبهذا نقول : إذا لم يعن بالروح النفس ، فإنه قال : الروح الكائن في الجسد ضربان : أحدهما الحياة القائمة به والآخر النفس . والنفس ريح ينبثّ به . والمراد بالنفس ، ما يخرج بنفس التنفس من أجزاء الهواء المتحلل من المسامّ ، وهذا قول الإسفرائينيّ وغيره . وقال ابن فورك : هو ما يجري في تجاويف الأعضاء . وأبو المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال : إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة . أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها . فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة . ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة ، وأن الروح عين قائمة بنفسها . تفارق البدن وتنعم ، وتعذب . ليست هي البدن ، ولا جزءا من أجزائه كالنفس المذكور .
ثم الذين قالوا : إنها عين ، تنازعوا : هل هي جسم متحيز ؟ على قولين : كتنازعهم في الملائكة . فالمتكلمون منهم يقولون : جسم . والمتفلسفة يقولون : جوهر عقلي ليس بجسم . وأصل تسميتهم المجردات والمفارقات ، هو مأخوذ من نفس الإنسان . فإنها لما كانت تفارق بدنه بالموت ، وتتجرد عنه ، سموها مفارقة مجردة . ثم أثبتوا ما أثبتوه من العقول والنفوس وسموها مفارقات ومجردات . لمفارقتها المادة التي هي عندهم الجسم . وهذه المفارقات عندهم ما لا يكون جسما ولا قائما بجسم . لكن النفس متعلقة بالجسم تعلق التدبير . والعقل لا تعلق له بالأجسام أصلا . ولا ريب أن جماهير العقلاء على إثبات الفرق بين البدن والروح التي تفارق . / والجمهور يسمون ذلك روحا وهذا جسما لكن لفظ الجسم في اللغة ليس هو الجسم في اصطلاح المتكلمين . بل الجسم هو الجسد . وهو الجسم الغليظ ، أو غلظه . والروح ليست مثل البدن في الغلظ والكثافة ولذلك لا تسمى جسما . فمن جعل الملائكة والأرواح جسما بالمعنى اللغويّ ، فما أصاب في ذلك . وما أهل الاصطلاح من المتكلمة والمتفلسفة ، فيجعلون مسمى الجسم أعم من ذلك . وهو ما أمكنت الإشارة الحسية إليه . وما قيل إنه هنا وهناك . وما قبل الأبعاد الثلاثة ونحو ذلك .
ثم قال عليه الرحمة : وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا سكون ، ولا صعود ولا نزول ، وليس داخل العالم ولا خارجه هو كلام باطل عند جماهير العقلاء . ولا سيما من يقول منهم ، كابن سينا وأمثاله : إنها لا تعرف شيئا من الأمور الجزئية . وإنما تعرف الأمور الكلية . فإن هذا مكابرة ظاهرة . فإنها تعرف بدنها وتعرف كل ما تراه وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده وتأمر به وتحبه وتكرهه ، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها . فكيف يقال : إنها لا تعرف الأمور المعينة وإنما تعرف أمورا كلية ! ؟ وكذلك قولهم ؛ إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف كتدبير الملك لمملكته من أفسد الكلام . فإن الملك يدبر أمر مملكته ، فيأمر وينهى . ولكن لا يصرفهم هو بمشيئته وقدرته ، إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم .
والملك لا يلتذ بلذة أحدهم ولا يتألم بتألمه ، وليس كذلك الروح والبدن . بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به . ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلا لدخول شيء من الأجسام المشهودة . فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية . فإن هذه إنما تلاقي السطح الداخل في الأوعية لا بطونها ولا ظهورها . وإنما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوساطها . وليس كذلك الروح والبدن . بل الروح تعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره . وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل . فإن ذلك له مجار معروفة ، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته . ولا جريانها في البدن كجريان الدم . فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض . ففي الجملة كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقا بالآخر . بخلاف الروح والبدن . لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه . وتخرج منه وقت الموت . وتسلّ منه شيئا فشيئا . فتخرج من البدن شيئا فشيئا . لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبّرها . والناس لما لم يشهدوا لها نظيرا ، عسر عليهم التعبير عن حقيقتها . وهذا تنبيه لهم على رب العالمين ، حيث لم يعرفوا حقيقته ، ولا تصوروا كيف هو سبحانه وتعالى . وإن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جل جلاله . فإن الروح ، التي هي بعض عبيده ، توصف بأنها تعرج إذا نام الإنسان . وتسجد تحت العرش . وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلية . والإنسان ، في نومه ، يحس بتصرفات روحه تصرفات تؤثر في بدنه . فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات . فإنها إذا صعدت إلى مكان فارقت الأول بالكلية . وحركتها إلى العلوّ حركة انتقال من مكان . وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك . انتهى .
وكتب بعض المنقبين عن مباحث المدققين العصريين في الروح ما مثاله : إن نظرية الروحيين التي يستدلون عليها في أوربا بالحسّ في هذه الأيام هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملأ الأعلى . لا يصل العقل إلى إدراك كنهها . وإنها متصلة بهذا الجسد الطينيّ ، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما . ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه . وإنه كغلاف للسر الإلهي المسمى روحا . ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح ( هي صورة كالجسد ) ويقولون : إن الروح وغلافها هذا / يخرجان من الجسد عند حصول الموت لشخص ، إلى عالم غير هذا العالم . ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال ، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة . ولكنا لا نراها بأعيننا ، لعدم استعداد أعيننا لذلك . كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة ( رونتجن ) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآلة التي صنعها لها . وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعيّ فائدة كبرى . ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص به يرون الأرواح رائحة غادية ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، رؤية حقيقية . انتهى ملخصا .
جميع ما قدمناه ، بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان .
قال ابن القيم في كتاب ( الروح ) : وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف . وأكثر السلف ، بل كلهم ، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم . بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه ، أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة ، وهو ملك عظيم . وقد ثبت في ( الصحيح ) {[5475]} عن عبد الله قال : " بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة ، وهو متكئ على عسيب ، فمررنا على نفر من اليهود . فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ؟ وقال بعضهم : لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه . وقال بعضهم : نسأله . فقام رجل فقال : يا أبا القاسم ! ما الروح ؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت . فلما تجلى عنه قال : { ويسألونك عن الروح . . . } الآية " ، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي . وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس . وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب . وقد تكلم فيها طوائف الناس من أهل الملل وغيرهم . فلم يكن الجواب / عنها من أعلام النبوة . فإن قيل : فقد روى أبو الشيخ عن السدّيّ عن أبي مالك ، عن ابن عباس قال : " بعثت قريش عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة ، يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقالوا لهم : إنه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبيّ . وليس على ديننا . ولا على دينكم . قالوا : فمن تبعه ؟ قالوا : سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه . وأما أشراف قومه فلم يتبعوه . فقالوا : إنه قد أظلّ زمان نبي يخرج ، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل ، فأتوه فاسألوه عن ثلاث خصال فأمركم بهن . فإن أخبركم بهن فهو نبي صادق . وإن لم يخبركم بهن فهو كذاب . سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم . فإن قال لكم : هي من الله ، فقولوا : كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه ؟ فسأل جبريل عنها فأنزل الله الآية . يقول : هو خلق من خلق الله ليس هو من الله " .
قيل : مثل هذا الإسناد لا يحتج به . فإنه من تفسير السديّ عن أبي مالك . وفيه أشياء منكرة . وسياق هذه القصة في السؤال ، من ( الصحاح ) و ( المسانيد ) ، كلها تخالف سياق السدّيّ . وقد رواها الأعمش والمغيرة ، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : " مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأ من اليهود . وأنا أمشي معه . فسألوه عن الروح ، قال فسكت . فظننت أنه يوحى إليه . فنزلت { ويسألونك عن الروح } يعني اليهود { قل الروح من أمر ربي . . . } الآية . وكذلك هي من قراءة عبد الله . فقالوا كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله عز وجل " . رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة . وروى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " أتت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الروح . فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء . فأنزل الله عز وجل الآية " . فهذا يدل على ضعف حديث السدّي ، وأن السؤال كان بمكة . فإن الحديث وحديث ابن مسعود صريح أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود . ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة ، لم يسكت / النبي صلى الله عليه وسلم ، ولبادر إلى جوابهم بما تقدم من إعلام الله له وما أنزل الله عليه . وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب . فإما أن تكون من قبل الرواة ، أو تكون أقواله قد اضطربت فيها . ثم ساق ابن القيم الروايات عنه مسندة ، ثم قال : والروح في القرآن على عدة أوجه :
أحدها : الوحي ، كقوله تعالى{[5476]} : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } وقوله{[5477]} : { ويلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } وسمي الوحي روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح .
الثاني : القوة والثبات والنصرة التي تؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين ، كما قال{[5478]} : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } .
الثالث : جبريل كقوله تعالى{[5479]} : { نزل به الروح الأمين * على قلبك } وقال تعالى{[5480]} : { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } وهو روح القدس ، قال تعالى{[5481]} : { قل نزله روح القدس } .
الرابع : الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله . وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى{[5482]} : { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون } وإنها الروح المذكورة في قوله{[5483]} : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم } .
الخامس : المسيح عيسى ابن مريم . قال تعالى{[5484]} : { إنما المسيح عيسى ابن مريم / رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } أما أرواح بني آدم فلم تقع تسميتها بالقرآن إلا بالنفس ، قال تعالى{[5485]} : { يا أيتها النفس المطمئنة } وقال{[5486]} : { ولا أقسم بالنفس اللوامة } وقال{[5487]} : { إن النفس لأمارة بالسوء } وقال{[5488]} : { أخرجوا أنفسكم } وقال{[5489]} : { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } وقال{[5490]} : { كل نفس ذائقة الموت } .
وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح . انتهى .
قال ابن كثير : رواية عبد الله في ( الصحيح ) المتقدمة ، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي ، أن هذه الآية مدنية . وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة . مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية . كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك . أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية : { ويسألونك عن الروح } انتهى .
وقد روى ابن جرير{[5491]} عن قتادة : أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام . وحكاه عن ابن عباس .
أقول : الذي أراه متعينا في الآية ، لسابقها ولاحقها ، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن ، وهو قريب من قول قتادة . ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنّة بكونه شفاء ورحمة ، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحا . قال تعالى{[5492]} : { وكذلك أوحينا / إليك روحا من أمرنا } وقال تعالى{[5493]} : { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } فكانوا إذا سمعوا الروح ، وصدعوا بالإيمان به ، يتعنتون في السؤال عنه ، استبعادا لأن يكون من لدنه سبحانه ، ولأن يكون بشر مثله مبعوثا بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله ، وأنه روح من لدنه ، وإلقاء من أمره . ونظير هذه الآية قوله تعالى{[5494]} : { ويستنبئونك أحق هو قل أي وربي } وقوله تعالى{[5495]} : { عم يتساءلون * عن النبإ العظيم * الذي هم فيه مختلفون } أي بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته . وذلك لأنهم قوم جاهلون ، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف ، فضلا عن الوحي وخصائص النبوة ، للأمية والجهالة الفاشيتين فيهم . كما أشير بقوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } أي مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم . وما هو في جنب معلومات لا تحصى ، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثب . والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف ، يفسر بعضه بعضا .
وجميع ما ذكره المتقدمون ، غير ما ذكرناه ، جري مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة . وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود ، لأنها لما كان لها وجوه من المعاني ، ومنها ما سألوا عنه ، ألقموا بها . والله سبحانه وتعالى أعلم .