الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا} (85)

وقوله سبحانه : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح } [ الإسراء : 85 ] .

روى ابن مسعود أن اليهود قال بعضُهم لبعْض : سَلُوا محمداً عن الرُّوحِ فإِن أجاب فيه ، عرفْتم أنه ليس بنبي .

قال ( ع ) : وذلك أنه كان عندهم في التوراة أَن الروح ممَّا انفرد اللَّه بعلْمه ، ولا يَطَّلع عليه أحَدٌ من عباده ، فسألوه ، فنزلَتِ الآية . وقيل : إن الآية مكِّية ، والسائلون هم قريشٌ ، بإِشارة اليهودِ ، واختلف الناس في الرُّوح المسؤول عَنْه ، أيُّ رُوحٍ هو ؟ فقال الجمهُور : وقع السؤال عن الأرواحِ التي في الأشخاصِ الحيوانيَّة ما هي ، فالرُّوح : اسم جنسٍ على هذا ، وهذا هو الصوابُ ، وهو المُشِكْل الذي لا تَفْسِيرَ له .

وقوله سبحانه : { مِنْ أَمْرِ رَبِّي } يحتملُ أن يريد أنَّ الرُّوح مِنْ جملة أمور اللَّه التي استأثر سبحانه بعلْمها ، وهي إِضافةُ خَلْقٍ إِلى خَالِقٍ .

قال ابنُ رَاشِدٍ في «مرقبته » : أخبرني شيخي شهابُ الدِّينِ القَرِافِيُّ عن ابْنِ دَقِيقِ العِيد أنَهَ رأى كتاباً لبعض الحكماءِ في حقيقة النفْسِ ، وفيه ثَلاَثُمِائَةِ قولٍ ، قال رحمه اللَّه : وكثرُة الخلافِ تؤذنُ بكثرة الجهالاتِ ، ثم علماءُ الإِسلام اختلفوا في جوازِ الخَوْضِ فيها على قولَيْن ، ولكلٍّ حُجَجٌ يطُولُ بنا سَرْدُها ، ثم القائلون بالجوازِ اختلفوا ، هَلْ هي عَرَضٌ أو جوهرٌ ، أو ليستْ بجوهرٍ ولا عرضٍ ، ولا توصَفُ بأنها داخلُ الجسمِ ولا خارجُه ، وإِليه ميل الإِمام أبي حامد وغيره ، والذي عليه المحقِّقون من المتأخِّرين أنها جسْمٌ نوارنيٌّ شفَّافٌ سارٍ في الجسْمِ سَرَيانَ النارِ في الفَحْم والدليلُ على أنها في الجسْم قوله تعالى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] فلو لم تكن في الجِسْمِ لما قال ذلك .

وقد أخبرني الفقيهُ الخطيبُ أبو محمد البرجيني رحمه الله عن الشيخ الصَّالح أبي الطاهر الرَّكْرَاكِيِّ رحمه الله قال : حَضَرْتُ عند وَلِيٍّ من الأولياء حين النَّزْعِ ، فشاهدتُّ نَفْسَهُ قد خَرَجَتْ من مواضع من جَسَده ، ثم تشكَّلت على رأْسِه بشَكْله وصُورَته ، ثم صَعِدت إِلى السماء ، وصَعِدت نفْسي معها ، فلما انتهينا إلى السماء الدنيا ، شاهَدتُّ باباً ورجْلَ مَلَكٍ ممدودةً عليه ، فأزال ذلك المَلَكُ رِجْله ، وقال لنفْسِ ذلك الوليِّ : اصْعَدِي ، فَصَعِدَتْ ، فأرادَتْ نفْسي أنْ تَصْعَدَ معها ، فقال لها : ارْجِعي ، فقد بقي لك وقْتٌ ، قال : فرجعت فشاهدت الناسَ دائرين على جسْمي ، وقائلٌ يقولُ : ماتَ ، وآخر يقول : لم يَمُتْ ، فدخلَتْ من أنْفي ، أو قال : مِنْ عَيْني ، وقَمْتُ . انتهى .

( ت ) : وهذه الحكايةُ صحيحةٌ ، ورجال إِسنادها ثقاتٌ معروفون بالفَضْل ، فابنَ راشِدٍ هو شارِحُ ابنِ الحاجِبِ الفَرْعِيِّ ، والبرجينيُّ معروفٌ عند أهْل إِفريقيَّةَ وأبو الطاهر من أكابر الأولياء معطَّم عند أهل تُونُسَ ، مزاره وقبره بالزلاج معروفٌ زرته رحمه الله ، وقرأ الجمهور : «وما أوتيتم » [ الإسراء : 85 ] واختلف فيمَنْ خوطب بذلك ، فقالت فرقة : السَّائِلُونَ فقَطْ ، وقالت فرقة : العالم كلُّه ، وقد نص على ذلك صلى الله عليه وسلم على ما حكاه الطبريُّ .