فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا} (85)

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( 85 ) }

ثم لما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه ، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الروح فقال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه ، فقيل هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته وبهذا قال أكثر المفسرين .

قال الفراء : الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله به سبحانه أحدا من خلقه ولم يعط علمه أحدا من عباده .

وقيل الروح المسؤول عنه جبريل ، وقيل عيسى وقيل القرآن وقيل ملك من الملائكة عظيم الخلق وقيل خلق كخلق بني آدم ، وقال بعضهم هو الدم ، ألا ترى الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم ، وقال قوم : هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس ، وقال قوم : هو عرض ، وقال قوم : هو جسم لطيف يحيا به الإنسان ، وقيل الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء ، والظاهر هو القول الأول .

وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الروح ، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله .

ثم أمر سبحانه أن يجيب عن السائلين له عن الروح فقال : { قُلِ الرُّوحُ } أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه { مِنْ أَمْرِ رَبِّي } من بيانية والأمر بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي لاشتراك الكل فيه وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده .

وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة أيضا ، وقيل المعنى من وحيه وكلامه لا من كلام البشر ، وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن المتكلفين لبيان ماهيته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع ، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتسع له المقام وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا .

وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول ، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ، ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث على حقيقته فضلا عن أممهم المقتدين بهم .

فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول والقانعين بالمعقول من المنقول إلى هذا الحد الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه ولم يستأثر بعلمه ، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه .

والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز ، ولذا رد ما قيل في حده قديما وحديثا .

ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله : { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } الخطاب عام لجميع الخلق ومن جملتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل هو خطاب لليهود خاصة ، والأول أولى ، ويدخل فيه اليهود دخولا أوليا .

والمعنى إن علمكم الذي علمكم الله ليس إلا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه وإن أوتيتم حظا من العلم وافرا ، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر كما في حديث موسى والخضر عليهما السلام .

وعبارة الخازن أن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة ، فوصف الشيء بالقلة بالنسبة إلى ما فوقه وبالكثرة إلى ما تحته . أ ه .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خرب المدينة وهو متكئ على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض : اسألوه عن الروح ، فقال بعضهم : لا تسألوه ، فقالوا : يا محمد ما الروح ؟ فما زال متكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فقال : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } الآية{[1089]} .

وأخرج أحمد والترمذي وصححه النسائي وابن المنذر وابن حبان في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال : قالت قريش لليهود : أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل ، قالوا : سلوه عن الروح ، فنزلت هذه الآية ، قالوا : أوتينا علما كثيرا وأوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ، فأنزل الله : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي } الآية ، وفي الباب أحاديث وآثار .


[1089]:مسلم 2794 – البخاري 106.