مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا} (85)

{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } أي من أمر يعلمه ربي ، الجمهور على أنه الروح الذي في الحيوان ، سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله أي مما استأثر بعلمه . وعن أبي هريرة : لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح ، وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه . والحكمة في ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز ، ولذا رد ما قيل في حده أنه جسم دقيق هوائي في كل جزء من الحيوان . وقيل : هو خلق عظيم روحاني أعظم من الملك . وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو جبريل عليه السلام : { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 ] وعن الحسن : القرآن دليله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] ولأن به حياة القلوب و { من أمر ربي } أي من وحيه وكلامه ليس من كلام البشر . ورُوي أن اليهود بعثت إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح ، فإن أجاب عن الكل أو سكت عن الكل فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم . وقيل : كان السؤال عن خلق الروح يعني أهو مخلوق أم لا . وقوله : { من أمر ربي } دليل خلق الروح فكان هذا جواباً { وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } الخطاب عام

فقد رُويَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال : " بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً " وقيل : هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [ البقرة : 269 ] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله . فالقلة والكثرة من الأمور الإضافية ، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله تعالى فهي قليلة .