فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا} (85)

ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه ، فقيل : هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته ، وبهذا قال أكثر المفسرين . قال الفراء : الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحداً من خلقه ، ولم يعط علمه أحداً من عباده فقال : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّي } أي : إنكم لا تعلمونه ، وقيل : الروح المسؤول عنه جبريل ، وقيل : عيسى ، وقيل القرآن ، وقيل : ملك من الملائكة عظيم الخلق ، وقيل : خلق كخلق بني آدم ، وقيل : غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده ، والظاهر القول الأول ، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية ، وبيان السائلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح ، لأن معرفة حقيقة الشيء أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله ، ثم أمره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى } «من » بيانية ، والأمر : الشأن ، والإضافة للاختصاص ، أي : هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يعلم بها عباده ، وقيل : معنى { مِنْ أَمْرِ رَبّى } من وحيه وكلامه لا من كلام البشر . وفي هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هيئته وإيضاح حقيقته أبلغ زجر ويردعهم أعظم ردع ، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتم له المقام ، وغالبه بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا .

وقد حكى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر مائة قول ، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ والتعب العاطل عن النفع ، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه ولم يطلع عليه أنبياءه ولا أذن لهم بالسؤال عنه ولا البحث عن حقيقته فضلاً عن أممهم المقتدين بهم ، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحدّ الذي لم تبلغه ولا بعضه في غير هذه المسألة مما أذن الله بالكلام فيه ، ولم يستأثر بعلمه . ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه : { وَمَا أُوتِيتُم من العلم إِلاَّ قَلِيلاً } أي : أن علمكم الذي علمكم الله ، ليس إلاّ المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه ، وإن أوتي حظاً من العلم وافراً ، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلاّ كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر ، كما في حديث موسى والخضر عليهم السلام .

/خ85