{وَيَسْألُونَكَ عَنِ اِلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسَاء فِي اِلْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} فالبين في كتاب الله أن يعتزل إتيان المرأة في فرجها للأذى فيه.
وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} يعني: يَرَيْنَ الطُّهر بعد انقطاع الدم. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} إذا اغتسلن {فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللَّهُ} قال بعض الناس من أهل العلم: من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن، يعني: عاد الفرج ـ إذا طَهُرْنَ فَتَطَهَّرْنَ ـ بحاله قبل أن تحيض حلالا.
قال جل ثناؤه: {فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسَاء فِي اِلْمَحِيضِ} يحتمل: فاعتزلوا فروجهن بما وصفت من الأذى، ويحتمل: اعتزال فروجهن وجميع أبدانهن، وفروجهن وبعض أبدانهن دون بعض، وأظهر معانيه اعتزال أبدانهم كلها، لقول الله عز وجل: {فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسَاء فِي اِلْمَحِيضِ} فلما احتمل هذه المعاني طلبنا الدلالة على معنى ما أراد جل وعلا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوجدناها تدل مع نص كتاب الله على اعتزال الفرج، وتدل مع كتاب الله عز وجل على أن يعتزل من الحائض في الإتيان والمباشرة ما حول الإزار فأسفل، ولا يعتزل ما فوق الإزار فأعلاها. فقلنا بما وصفنا: لتشدد الحائض إزارا على أسفلها، ثم يباشرها الرجل وينال من إتيانها من فوق الإزار ما شاء. فإن أتاها حائضا فليستغفر الله ولا يَعُدْ.
أخبرنا مالك، عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما أرسل إلى عائشة رضي الله عنها يسألها هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: لتشد إزارها على أسفلها ثم يباشرها إن شاء.
وإذا أراد الرجل أن يباشر امرأته حائضا لم يباشرها حتى تشد إزارها على أسفلها ثم يباشرها من فوق الإزار منها مُفضيا إليه، ويتلذذ به كيف شاء منها، ولا يتلذذ بما تحت الإزار منها، ولا يباشرها مُفضيا إليها: والسرة ما فوق الإزار. (الأم: 2/172-173. ومن الأم: 1/59. و أحكام الشافعي: 1/52)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَيَسَألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ": ويسألك يا محمد أصحابك عن الحيض. وإنما كان القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لنا عن الحيض، لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم ما يتبينون من أمره، لا يساكنون حائضا في بيت، ولا يؤاكلونهنّ في إناء، ولا يشاربونهنّ، فعرّفهم الله بهذه الآية أن الذي عليهم في أيام حيض نسائهم أن يجتنبوا جماعهنّ فقط دون ما عدا ذلك من مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن... فحرم فرجها ما دامت حائضا، وأحلّ ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك إذا كان عليها إزار محتجزة به دونك.
وقد قيل: إنهم سألوا عن ذلك، لأنهم كانوا في أيام حيضهنّ يجتنبون إتيانهنّ في مخرج الدم ويأتونهن في أدبارهن. فنهاهم الله عن أن يقربوهن في أيام حيضهن حتى يطهرن، ثم أذن لهم إذا تطهرن من حيضهن في إتيانهن من حيث أمرهم باعتزالهن، وحرم إتيانهن في أدبارهن بكل حال. وقيل: إن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابت بن الدحداح الأنصاري.
"قُلْ هُوَ أذًى": قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض هو أذى. والأذى: هو ما يؤذى به من مكروه فيه، وهو في هذا الموضع يسمى أذى لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعان شتى من خلال الأذى غير واحدة.
وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك على تقارب معاني بعض ما قالوا فيه من بعض؛ فقال بعضهم قوله: "قُلْ هُوَ أذًى": قل هو قذر.
وقال آخرون: قل هو دم. "فاعْتَزِلُوا النّساءَ فِي المَحِيضِ": فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهنّ في محيضهن. واختلف أهل العلم في الذي يجب على الرجل اعتزاله من الحائض؛ فقال بعضهم: الواجب على الرجل اعتزال جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه.
عن ندبة، مولاة آل عباس قالت: بعثتني ميمونة ابنة الحارث، أو حفصة ابنة عمر، إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابة من قبل النساء، فوجدت فراشها معتزلاً فراشه، فظننت أن ذلك عن الهجران، فسألتها عن اعتزال فراشه فراشها، فقالت: إني طامث، وإذا طمثت أعتزل فراشي. فرجعت فأخبرت بذلك ميمونة أو حفصة، فردّتني إلى ابن عباس، تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه، وإنها لحائض، وما بينه وبينها إلا ثوب ما يجاوز الركبتين.
واعتل قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره أمر باعتزال النساء في حال حيضهن، ولم يخصص منهن شيئا دون شيء، وذلك عامّ على جميع أجسادهنّ واجب اعتزال كل شيء من أبدانهن في حيضهن.
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن موضع الأذى، وذلك موضع مخرج الدم... عن مسروق بن الأجدع، قال: قلت لعائشة: ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع.
قال ابن عباس: إذا جعلت الحائض على فرجها ثوبا أو ما يكفّ الأذى، فلا بأس أن يباشر جِلْدُها زَوْجَها...
وعلة قائل هذه المقالة، قيام الحجة بالأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حيض، ولو كان الواجب اعتزال جميعهن لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله: "فاعْتَزِلُوا النّساءَ فِي المَحِيضِ "هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قبلها دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها.
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن في حال حيضهن ما بين السرة إلى الركبة، وما فوق ذلك ودونه منها. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتزر ودونه لما ذكرنا من العلة لهم.
"وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتى يَطْهُرْنَ".
اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: "حتى يَطْهُرْنَ "بضم الهاء وتخفيفها، وقرأه آخرون بتشديد الهاء وفتحها. وأما الذين قرأوه بتخفيف الهاء وضمها فإنهم وجهوا معناه إلى: ولا تقربوا النساء في حال حيضهن حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويطهرن. وقال بهذا التأويل جماعة من أهل التأويل... وأما الذين قرأوا ذلك بتشديد الهاء وفتحها، فإنهم عنوا به: حتى يغتسلن بالماء وشدّدوا الطاء لأنهم قالوا: معنى الكلمة: حتى يتطهرن أدغمت التاء في الطاء لتقارب مخرجيهما.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: «حّتى يَطّهّرْنَ» بتشديدها وفتحها، بمعنى: حتى يغتسلن، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتى تطهر.
وإنما اختلف في التطهر الذي عناه الله تعالى ذكره، فأحلّ له جماعها، فقال بعضهم: هو الاغتسال بالماء، ولا يحلّ لزوجها أن يقربها حتى تغسل جميع بدنها. وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة. وقال آخرون: بل هو غسل الفرج، فإذا غسلت فرجها فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانها.
فإذا كان إجماع من الجميع أنها لا تحلّ لزوجها بانقطاع الدم حتى تطهر، كان بينا أن أولى القراءتين بالصواب أنفاهما للبس عن فهم سامعها، وذلك هو الذي اخترنا، إذ كان في قراءة قارئها بتخفيف الهاء وضمها ما لا يؤمن معه اللبس على سامعها من الخطأ في تأويلها، فيرى أن للزوج غشيانها بعد انقطاع دم حيضها عنها وقبل اغتسالها وتطهرها.
فتأويل الآية إذا: ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى، فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهن، ولا تقربوهنّ حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه.
"فإذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ": فإذا اغتسلن فتطهرن بالماء فجامعوهن.
فإن قال قائل: أففرض جماعهنّ حينئذ؟ قيل: لا. فإن قال: فما معنى قوله إذا: "فأْتُوهُنّ"؟ قيل: ذلك إباحة ما كان منع قبل ذلك من جماعهنّ وإطلاق لما كان حظر في حال الحيض، وذلك كقوله: "وَإذَا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا" وقوله: "فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فانْتَشرُوا فِي الأرْضِ" وما أشبه ذلك.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فإذَا تَطَهّرْنَ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فإذا اغتسلن. وقال آخرون: معنى ذلك فإذا تطهرن للصلاة... عن طاوس ومجاهد أنهما قالا: إذا طهرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرها بالوضوء قبل أن تغتسل إذا أدركه الشبق فليُصِب.
وأولى التأويلين بتأويل الآية قول من قال: معنى قوله: "فإذَا تَطَهّرْنَ": فإذا اغتسلن لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرا الطهر الذي يحلّ لها به الصلاة، وأن القول لا يخلو في ذلك من أحد أمرين: إما أن يكون معناه: فإذا تطهرن من النجاسة فأتوهن. وإن كان ذلك معناه، فقد ينبغي أن يكون متى انقطع عنها الدم فجائز لزوجها جماعها إذا لم تكن هنالك نجاسة ظاهرة، هذا إن كان قوله: "فإذَا تَطَهّرْنَ" جائزا استعماله في التطهر من النجاسة، ولا أعلمه جائزا إلا على استكراه الكلام أو يكون معناه: فإذا تطهرن للصلاة في إجماع الجميع من الحجة على أنه غير جائز لزوجها غشيانها بانقطاع دم حيضها، إذا لم يكن هنالك نجاسة دون التطهر بالماء إذا كانت واجدته أدلّ الدليل على أن معناه: فإذا تطهرن الطهر الذي يجزيهن به الصلاة. وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحلّ لها إلا بالاغتسال أوضح الدلالة على صحة ما قلنا من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال، وأن معنى قوله: فإذَا تَطَهّرْنَ فإذا اغتسلن فصرن طواهر الطهر الذي يجزيهن به الصلاة.
"فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ".
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهرن من الوجه الذي نهيتكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن، وذلك الفرج الذي أمر الله بترك جماعهنّ فيه في حال الحيض... في الفرج لا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى.
وقال آخرون: معناه: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه، وذلك الوجه هو الطهر دون الحيض. فكان معنى قائل ذلك في الآية: فأتُوهنّ من قُبْل طهرهنّ لا من قُبْل حيضهن... يعني أن يأتيها طاهرا غير حائض.
وقال آخرون: بلى معنى ذلك: فأتوا النساء من قبل النكاح لا من قبل الفجور... من قبل الحلال من قبل التزويج.
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قول من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قبل طهرهن وذلك أن كل أمر بمعنى فنهي عن خلافه وضده، وكذلك النهي عن الشيء أمر بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله: "فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ": فأتوهنّ من قبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن، لوجب أن يكون قوله: "وَلا تَقْرَبُوهُنّ حَتى يَطْهُرْنَ" تأويله: ولا تقربوهنّ في مخرج الدم دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهنّ. وفي إجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يطلق في حال الحيض من إتيانهنّ في أدبارهن شيئا حرّمه في حال الطهر ولا حرم من ذلك في حال الطهر شيئا أحله في حال الحيض، ما يعلم به فساد هذا القول.
وبعد: فلو كان معنى ذلك على ما تأوّله قائلو هذه المقالة لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوّله، ويكون ذلك أمرا بإتيانهن في فروجهن، لأن الكلام المعروف إذا أريد ذلك أن يقال: أتى فلان زوجته من قبل فرجها، ولا يقال: أتاها من فرجها إلا أن يكون أتاها من قبل فرجها في مكان غير الفرج.
فإن قال لنا قائل: فإن ذلك وإن كان كذلك، فليس معنى الكلام: فأتوهن في فروجهن، وإنما معناه، فأتوهن من قبل قبلهن في فروجهن، كما يقال: أتيت هذا الأمر من مأتاه. قيل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك على ما زعمتم، فقد يجب أن يكون معنى قوله: "فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ" غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم ومن حيث أمرتم باعتزالهن، ولكن الواجب أن يكون تأويله على ذلك: فأتوهنّ من قبل وجوههنّ في أقبالهن، كما كان قول القائل ائت الأمر من مأتاه إنما معناه: اطلبه من مطلبه، ومطلب الأمر غير الأمر المطلوب، فكذلك يجب أن مأتى الفرج الذي أمر الله في قولهم بإتيانه غير الفرج. وإذا كان كذلك وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههنّ في فروجهنّ، وجب أن يكون على قولهم محرّما إتيانهنّ في فروجهن من قبل أدبارهن، وذلك إن قالوه خرج من قاله من قيل أهل الإسلام، وخالف نصّ كتاب الله تعالى ذكره وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الله يقول: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن.
فقد تبين إذا إذ كان الأمر على ما وصفنا فساد تأويل من قال ذلك: فأتوهنّ في فروجهنّ حيث نهيتكم عن إتيانهن في حال حيضهن، وصحة القول الذي قلناه، وهو أن معناه: فأتوهن في فروجهن من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن، وذلك حال طهرهن وتطهرهن دون حال حيضهن.
"إنّ اللّهَ يُحِبّ التّوابِينَ ويُحِبّ المُتَطَهّرِينَ": إنّ اللّهَ يُحِبّ التّوابِينَ المنيبين من الإدبار عن الله وعن طاعته إليه وإلى طاعته وقد بينا معنى التوبة قبل.
واختلف في معنى قوله: "ويُحِبّ المُتَطَهّرِينَ"؛ فقال بعضهم: هم المتطهرون بالماء... المتطهرين بالماء للصلاة.
وقال آخرون: معنى ذلك إن الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين من أدبار النساء أن يأتوها. وقال آخرون: معنى ذلك: «ويحب المتطهرين» من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة بها. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: إن الله يحبّ التوّابين من الذنوب، ويحبّ المتطهرين بالماء للصلاة لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانيه. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر أمر المحيض، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها في جاهليتهم، من تركهم مساكنة الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وأشياء غير ذلك مما كان تعالى ذكره يكرهها من عباده. فلما استفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أوحى الله تعالى إليه في ذلك، فبين لهم ما يكرهه مما يرضاه ويحبه، وأخبرهم أنه يحبّ من خلقه من أناب إلى رضاه ومحبته، تائبا مما يكرهه. وكان مما بين لهم من ذلك أنه قد حرم عليهم إتيان نسائهم وإن طهرن من حيضهن حتى يغتسلن، ثم قال: "وَلا تَقْرَبُوهُنّ حّتى يَطْهُرْنَ فَإذَا تَطَهّرْنَ فأْتُوهُنّ" فإن الله يحبّ المتطهرين، يعني بذلك المتطهرين من الجنابة والأحداث للصلاة، والمتطهرات بالماء من الحيض والنفاس والجنابة والأحداث من النساء. وإنما قال: ويحبّ المتطهرين، ولم يقل المتطهرات، وإنما جرى قبل ذلك ذكر التطهر للنساء لأن ذلك بذكر المتطهرين يجمع الرجال والنساء، ولو ذكر ذلك بذكر المتطهرات لم يكن للرجال في ذلك حظ، وكان للنساء خاصة، فذكر الله تعالى ذكره بالذكر العام جميع عباده المكلفين، إذ كان قد تعبد جميعهم بالتطهر بالماء، وإن اختلفت الأسباب التي توجب التطهر عليهم بالماء في بعض المعاني واتفقت في بعض.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} مما عسى يندر منهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك. {وَيُحِبُّ المتطهرين} المتنزهين عن الفواحش. أو إنّ الله يحبّ التوّابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار: كمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل، وإتيان ما ليس بمباح، وغير ذلك.
اعلم أنه تعالى جمع في هذا الموضع ستة من الأسئلة، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو، وذكر الثلاثة الأخيرة بالواو، والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت فيها بحرف العطف، لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ، وسألو عن المسائل الثلاثة الأخيرة في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا، والسؤال عن كذا. اعلم أن دم الحيض موصوف بصفات حقيقية ويتفرع عليه أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فأمران؛
أحدهما: المنبع، ودم الحيض دم يخرج من الرحم، قال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} قيل في تفسيره: المراد منه الحيض والحمل، وأما دم الاستحاضة، فإنه لا يخرج من الرحم، لكن من عروق تنقطع في فم الرحم...
والنوع الثاني: من صفات دم الحيض: الصفات التي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم دم الحيض بها أحدها: أنه أسود والثاني: أنه ثخين، والثالث: أنه محتدم وهو المحترق من شدة حرارته، الرابعة: أنه يخرج برفق ولا يسيل سيلانا، والخامسة: أن له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة. السادسة: أنه بحراني، وهو شديد الحمرة وقيل: ما تحصل فيه كدورة تشبيها له بماء البحر، فهذه الصفات هي الصفات الحقيقية.
أما قوله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}... التواب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة، وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر في قبول التوبة. فإن قيل: ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقا والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب، فمن لم يكن مذنبا وجب أن لا تحسن منه التوبة. والجواب من وجهين:
الأول: أن المكلف لا يأمن البتة من التقصير، فتلزمه التوبة دفعا لذلك التقصير المجوز
الثاني: قال أبو مسلم الأصفهاني {التوبة} في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود.
[و] اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في أصل اللغة عبارة عن الرجوع، إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي، والترك في الحاضر، والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي،
ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول: مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية، فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال، وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية، لئلا يتوجه الطعن والسؤال.
أما قوله تعالى: {ويحب المتطهرين} ففيه وجوه أحدها: المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزها عنه، ولا ثالث لهذين القسمين، واللفظ محتمل لذلك، لأن الذنب نجاسة روحانية، ولذلك قال: {إنما المشركون نجس} فتركه يكون طهارة روحانية، وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزها عن العيوب والقبائح...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{إن الله يحب التوابين} أي: الراجعين إلى الخير. وجاء عقب الأمر والنهي إيذاناً بقبول توبة من يقع منه خلاف ما شرع له، وهو عام في التوابين من الذنوب. والذي يظهر أنه تعالى ذكر في صدر الآية {يسئلونك عن المحيض} ودل السبب على أنهم كانت لهم حالة يرتكبونها حالة الحيض، من مجامعتهنّ في الحيض في الفرج، أو في الدبر، ثم أخبر الله تعالى بالمنع من ذلك، وذلك في حالة الحيض في الفرج أو في الدبر، ثم أباح الإتيان في الفرج بعد انقطاع الدم والتطهر الذي هو واجب على المرأة لأجل الزوج، وإن كان ليس مأموراً به في لفظ الآية، فأثنى الله تعالى على من امتثل أمر الله تعالى، ورجع عن فعل الجاهلية إلى ما شرعه تعالى، وأثنى على من امتثلت أمره تعالى في مشروعية التطهر بالماء، وأبرز ذلك في صورتين عامتين، استدرج الأزواج والزوجات في ذلك، فقال تعالى: {إن الله يحب التوابين} أي: الراجعين إلى ما شرع {ويحب المتطهرين} بالماء فيما شرع فيه ذلك فكان ختم الآية بمحبة الله من اندرج فيه الأزواج والزوجات. وذكر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر، وأن لكل من الوصفين محبة من الله يخص ذلك الوصف، أو كرر ذلك على سبيل التوكيد.
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً...}، وقال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} والجامع أنّ الأذى هو الأمر المؤلم الذي يقصد إماطته، قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين...}. التَّشديد لتكثير التَّوبة ودوامها، فقد تكون توبة واحدة لكنّها دائمة فمن يذكر المعصية ويندم عليها تائب، ومن يذكرها ويتشوّق لعودته إليها غير تائب لأنه مصر عليها، وتارة يقف ولا يندم ولا يتشوّق إلى العودة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان في ذكر هذه الآية رجوع إلى تتميم ما أحل من الرفث في ليل الصيام على أحسن وجه تلاها بالسؤال عن غشيان الحائض ولما كان في النكاح شائبة للجماع تثير للسؤال عن أحواله وشائبة للأنس والانتفاع تفتر عن ذلك كان نظم آية الحرث بآية العقد بطريق العطف أنسب منه بطريق الاستئناف فقال: {ويسألونك عن المحيض} أي عن نكاح النساء فيه مخالفة لليهود.
{فاعتزلوا النساء} أي كلفوا أنفسكم ترك وقاعهن، من الاعتزال وهو طلب العزل وهو الانفراد عما شأنه الاشتراك -قاله الحرالي...
ولما دل ما في السياق من تأكيد على أن بعضهم عزم أو أحب أن يفعل بعض ما تقدم النهي عنه علل بقوله: {إن الله} مكرراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام ولم يضمره إعلاماً بأن هذا حكم عام لما يقع من هفوة بسبب الحيض أو غيره {يحب} أي بما له من الاختصاص بالإحاطة بالإكرام وإن كان مختصاً بالإحاطة بالجلال {التوابين} أي الرجاعين عما كانوا عزموا عليه من ذلك ومن كل ذنب أوجب لهم نقص الإنسانية ولا سيما شهوة الفرج الإلمام به، كلما وقعت منهم زلة أحدثوا لها توبة لأن ذلك من أسباب إظهاره سبحانه صفة الحلم والعفو والجود والرحمة والكرم "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم "أخرجه مسلم والترمذي عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه.
وإذا أحب من يتكرر منه التوبة بتكرار المعاصي فهو في التائب الذي لم يقع منه بعد توبته زلة إن كان ذلك يوجد أحب وفيه أرغب وبه أرحم،
ولما كان ذلك مما يعز التخلص من إشراكه إما في تجاوز ما في المباشرة أو في الجماع أولاً أو آخراً أتى بصيغة المبالغة. قال الحرالي: تأنيساً لقلوب المتحرجين من معاودة الذنب بعد توبة منه، أي ومن معاودة التوبة بعد الوقوع في ذنب ثان لما يخشى العاصي من أن يكتب عليه كذبه كلما أحدث توبة وزل بعدها فيعد مستهزئاً فيسقط من عين الله ثم لا يبالي به فيوقفه ذلك عن التوبة.
ولما كانت المخالطة على الوجه الذي نهى الله عنه قذرة جداً أشار إلى ذلك بقوله: {ويحب} و لما كانت شهوة النكاح وشدة الشبق جديرة بأن تغلب الإنسان إلا بمزيد مجاهدة منه أظهر تاء التفعل فقال: {المتطهرين} أي الحاملين أنفسهم على ما يشق من أمر الطهارة من هذا وغيره، وهم الذين يبالغون ورعاً في البعد عن كل مشتبه فلا يواقعون حائضاً إلا بعد كمال التطهر؛ أي يفعل معهم من الإكرام فعل المحب وكذا كل ما يحتاج إلى طهارة حسية أو معنوية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه لفتة أخرى إلى تلك العلاقة ترفعها إلى الله؛ وتسمو بأهدافها عن لذة الجسد حتى في أشد أجزائها علاقة بالجسد.. في المباشرة.. إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية. وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة. هدف النسل وامتداد الحياة، ووصلها كلها بعد ذلك بالله. والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية -مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء- ولكنها لا تحقق الهدف الأسمى. فضلا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة. لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة. فتنصرف بطبعها -وفق هذا القانون- عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس، ولا أن تنبت منها حياة. والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية، وتحقق معها الغاية الفطرية.
ومن ثم جاء ذلك النهي إجابة عن ذلك السؤال: {ويسألونك عن المحيض. قل: هو أذى. فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن}.. وليست المسألة بعد ذلك فوضى، ولا وفق الأهواء والانحرافات. إنما هي مقيدة بأمر الله؛ فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف، مقيدة بكيفية وحدود: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}.. في منبت الإخصاب دون سواه. فليس الهدف هو مطلق الشهوة، إنما الغرض هو امتداد الحياة. وابتغاء ما كتب الله. فالله يكتب الحلال ويفرضه؛ والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه، ولا ينشىء هو نفسه ما يبتغيه. والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده، ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [البقرة: 221]، بمناسبة أن تحريم نكاح المشركات يؤذن بالتنزه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كُنَّ حُيَّضاً وكانوا يفرطون في الابتعاد منهن مدة الحيض فناسب تحديد ما يكثر وقوعه وهو من الأحوال التي يخالف فيها المشركون غيرهم، ويتساءل المسلمون عن أحق المناهج في شأنها.
والأذى: الضر الذي ليس بفاحش؛ كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى: {لن يضرونكم إلا أذى} [آل عمران: 111]، ابتدأ جوابهم عما يصنع الرجل بامرأته الحائض فبين لهم أن الحيض أذى ليكون ما يأتي من النهي عن قربان المرأة الحائض نهياً معلَّلاً فتتلقاه النفوس على بصيرة وتتهيأُ به الأمة للتشريع في أمثاله، وعبر عنه بأذى إشارة إلى إبطال ما كان من التغليط في شأنه وشأن المرأة الحائض في شريعة التوراة، وقد أثبت أنه أذى منكَّر ولم يبين جهته فتعين أن الأذى في مخالطة الرجل للحائض وهو أذى للرجل وللمرأة وللولد،
فأما أذى الرجل فأوله القذارة وأيضاً فإن هذا الدم سائل من عضو التناسل للمرأة وهو يشتمل على بيضات دقيقة يكون منها تخلق الأجنة بعد انتهاء الحيض وبعد أن تختلط تلك البيضات بماء الرجل فإذا انغمس في الدم عضو التناسل في الرجل يتسرب إلى قضيبه شيء من ذلك الدم بما فيه فربما احتبس منه جزء في قناة الذكر فاستحال إلى عفونة تحدث أمراضاً معضلة فتحدث بثوراً وقروحاً لأنه دم قد فسد ويرد أي فيه أجزاء حية تفسد في القضيب فساداً مثل موت الحي فتؤول إلى تعفن.
وأما أذى المرأة فلأن عضو التناسل منها حينئذ بصدد التهيؤ إلى إيجاد القوة التناسلية فإذا أزعج كان إزعاجاً في وقت اشتغاله بعمل فدخل عليه بذلك مرض وضعف...
وقوله: {فاعتزلوا النساء في المحيض} تفريع الحكم على العلة، وقوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} جاء النهي عن قربانهن تأكيداً للأمر باعتزالهن وتبييناً للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القِربان، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة {ولا تقربوهن} مفصولة بدون عطف، لأنها مؤكدة لمضمون جملة {فاعتزلوا النساء في المحيض} ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتماماً بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصوداً بالذات معطوفاً على التشريعات. ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرِب بكسر الراء ولذلك جيء فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمِع متعدياً إلى المفعول؛ فإن الجماع لم يجئ إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرُب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة، لأن فيها قرباً ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال، كما قالوا بَعُدَ إذا تجافى مكانه وبَعِدَ كمعنى البُعد المعنوي ولذلك يدعو بلا يَبْعَدْ.
وقوله: {من حيث أمركم الله} حيث اسم مكان مبهم مبنيٌ على الضم ملازمٌ الإضافة إلى جملة تحدده لِزوال إبهامها، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولاً إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم. فحيث مجاز في الحال أو السبب و (من) لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل. والذي أراه أن قوله: {من حيث أمركم الله} قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل، وأما (حيث) فظرف مكان وقد تستعمل مجازاً في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية ب (حتى) في قوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن، و (من) للابتداء المجازي، و (حيث) مستعملة في التعليل مجازاً تخييليا، أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهر. أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء وهو عقد النكاح، فحرف (من) للتعليل والسببية، و (حيث) مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد. وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين، وأما ذكر التوابين فهو ادماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما أمرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض أي إن التوبة أعظم شأناً من التطهر أي إن نية الامتثال أعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم، لأن التوبة تطهر روحاني والتطهر جثماني.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
يبين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة من شئون الأسرة كيف يختار الزوج، وكيف يصطفى عشير الحياة، وأن الأساس هو الدين والفضيلة في الاختيار، لا جاه الدنيا ولا أحسابها ولا أنسابها، لأن العشرة الحسنة تقوم على الفضيلة ومكارم الأخلاق، لا على الاستعلاء بالنسب، والتفاخر بالحسب. و في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى العشرة الحسنة، وقد تصدى فيها القرآن الكريم لبيان النزاهة البدنية في العلاقة الطبيعية التي يتقاضاها الطبع السليم بين الرجل والمرأة، والتي بها يعمر الكون، ويبقى الإنسان الذي جعله الله سبحانه وتعالى في الأرض خليفة.
و قد ذكر سبحانه وتعالى وصايا كريمة في أمرين، وتشير هذه الوصايا إلى بعض مقاصد الزواج العليا، ثم ذكر حكما شرعيا قاطعا في أمر ينفذ فيه بحكم القضاء، لا بحكم التدين المجرد.
أما الأمران اللذان جاءت فيهما الوصايا الكريمة المرشدة الهادية، العفيفة النزهة، فهما يتعلقان بمباشرة الحائض، والنهي عنه،
وبالمقصد من الزواج وملاحظته عند المسيس وقضاء الوطر الجنسي، وهو النسل القوي ذو الخلق الكريم،
والأمر الثالث الذي ينفذ بحكم القضاء هو الامتناع عن العلاقة الفطرية الطبيعية مضارة وإيذاء لامرأته بأيمان يحلفها للضرر والإيذاء، فقد حكم فيه الشارع حكما مقررا، وهو الفرقة بعد الامتناع أمدا معلوما...
ونكتفي هنا ببيان الوصايا في الأمرين الأولين. {و يسألونك عن المحيض} السؤال كان من المؤمنين، ولم يكن من غيرهم، لأنهم أرادوا أن يعلموا حكم دينهم في أخص شئونهم، ولأنهم أدركوا بقوة وجدانهم الديني أن الإسلام مرشد إلى الأمر الصالح في كل شيء وفي كل الأمور، ما دق منها وما جل، بل ما خص منها وما عم، وليس أي شأن من الشئون الخاصة إلا له صلة بالشئون العامة، لأن الإنسان ليس شيئا قائما بذاته منفردا عن غيره مفصولا عن سواه، بل هو جزء من كل، موصول بما عداه، فالأجزاء تتلاقى فتكون ذلك المجموع وتربطه بروابط من الفضيلة، فما من خصوص للآحاد إلا له صلة وثيقة بعموم الجماعة، ومن فصل الأمور الشخصية عن الأمور العامة لم يفهم علاقة الإنسان بالإنسان ولم يفهم قانون الجماعات وسر الاجتماع.
من أجل هذا المعنى سأل المؤمنون عن هذا الأمر الخاص الذي يتصل بأدق العلاقة بين الرجل والمرأة. و الظاهر أن السؤال عن حكم العلاقة عند وجود الدم وكل التخريجات السابقة تصلح لذلك وكلها تحتاج إلى تأويل محذوف مقدر وهو السؤال عن الحكم، وكل التقديرات تنتهي إلى معنى واحد. وما جرى بين المفسرين من خلاف في هذا هو خلاف لفظي لا جدوى – من حيث المعنى – فيه،
ولماذا كان السؤال؟ ألم يكن من مقتضى الفطرة أن يعلموا الجواب؟ نعم لقد كان من مقتضى الفطرة أن يعلموا أن الحيض أذى في كل أحواله، وأنه يعتزل موضعه إبان ظهوره، ولكن أهل الديانات السماوية التي كانت تصاقب أماكنهم في بلادهم من اليهود والنصارى قد اختلفوا، ما بين متشددين في شأن الحائض، ومتسامحين في شأنها، فالنصارى ما كانوا يفرقون بين حائض وغير حائض في المعاملة والمباشرة، واليهود كانوا يشددون عليها وعلى أنفسهم في المعاملة فيتجنبونها اجتنابا تاما، ولا يعتزلونها في المباشرة وحدها، بل يعزلونها في كل الأحوال عن أنفسهم عزلا كاملا، حتى ليعتبرون كل ما مسته يكون نجسا، ومن يمسها يكون نجسا، وكأنها تكون من الأنجاس في هذه المدة.
{قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} أجاب الله سبحانه وتعالى بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب به {هو أذى} أي هذا الدم الذي يلفظه الرحم أذى يتأذى به الإنسان تأذيا حسيا جسميا، فرائحته، يتأذى منها من يشمها، وهو قذر في ذاته، وهو فوق ذلك أذى نفسي للرجل والمرأة معا، فالمرأة لا تكون في حال تستسيغ معها المباشرة، بل إنها تكون متقززة منها في هذه الحال نافرة إلا في الأحوال الشاذة والصور النادرة، وجهازها التناسلي يكون في حال اضطراب، فتتألم من كل مباشرة، وأعصابها وأحوالها وعامة شئونها تكون في حال تتأذى معها من كل اتصال جنسي، والرجل يتأذى نفسيا، إذ يكون خليطه في حال نفرة بل بغض لما يقدم عليه، ثم إن المباشرة في هذه الحال لا يتحقق معها القصد الاسمي وهو النسل، فإن المرأة في هذه الحال لا تكون صالحة للإنسال. و إذا كان موضع الحيض أو الحيض نفسه شيئا يتقزز منه، فإن الوصية الواجبة في حاله هي الاعتزال،
ولذا قال سبحانه مرتبا الوصية على تلك الحال التي يتأذى منها {فاعتزلوا النساء في المحيض} أي اعتزلوهن في وقت الحيض، والمراد بالاعتزال الامتناع عن المباشرة، و يلاحظ في نسق الكلمات السامية {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} أنه قد قدم السبب على المسبب، والعلة على المعلول، فإن سبب الوصية بالاعتزال هو كون المحيض أذى يجب الاعتزال فيه. و إذا كان سبب الاعتزال وعدم المباشرة هو أذى المحيض فإن الاعتزال مؤقت بوجوده، ويزول بانتهائه، ولذلك بين سبحانه مدى تحريم الاعتزال بقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} والقرب المنهي عنه كناية عن المباشرة، وهي من الكنايات القرآنية التي تربي الذوق وتمنع عن الأسماع الألفاظ التي يجافي سماعها الأذواق السليمة، وكم للقرآن من كنايات ومجازات تعلو بمستوى القارئ، ولها وضوح وقصد إلى المعاني من غير خطأ في الفهم، ولا غموض في الموضوع، وأي قارئ يقرأ كلمات {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن}، ولا يفهم منها النهي عن الحال التي يتقاضاها الطبع في الأحوال الاعتيادية، وأن النهي موقوت بذلك الوقت المعلوم.
{فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} وإذا كان المنع مؤقتا، فإنه بزواله تجيء الإباحة، وتعود الحال إلى ما كانت عليه، وهنا كلمتان ساميتان نشير إلى بعض ما اشتملتا عليه من معان سامية، وهما قوله تعالى: {فأتوهن} والثانية قوله {من حيث أمركم الله}.
و الطلب في قوله تعالى: {فأتوهن} ليس المراد به الحتم واللزوم، فليس بلازم الإتيان عقب التطهر، لأن ذلك مبني على الرغبة والطاقة،إنما المراد هو إباحة المباشرة فإنه من المقرر عند علماء الأصول أن الأمر بعد النهي يكون للإباحة، وخصوصا إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام، مثل قوله تعالى:"فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" (الجمعة).
و أما الكلمة الثانية وهي {من حيث أمركم الله} فمن هنا المسماة بمن الابتدائية، أي الإتيان يكون مبتدئا من المكان الذي أحله الله سبحانه، وهو الذي كونه الله سبحانه على أنه المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية، وهو مكان البذر والإنسال، فالمراد من أمر الله في هذا المقام الأمر الإلزامي الذي جاء الإلزام فيه بحكم الشرع الإلهي، وبحكم الفطرة التكوينية، فقد أمر الله بأن تكون المباشرة في موضع النسل والحرث والبذر، والفطرة التي فطر الله الناس عليها توجب ذلك وتلزم به، إلا من أيفت مشاعرهم وشذ تكوينهم، ولذلك كانت تلك الفطرة هي الوضع الإنساني الذي التزمه بنو الإنسان حتى المتوحشون المتبدون، ولم يخرج عن ذلك إلا الذين أصابهم شذوذ في عقولهم ونفوسهم من بعض الذين سموا متمدينين.
{إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بتلك الجملة السامية، والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا هفا، منيب إليه إذا انحرف، كثير الرجوع إلى رب العالمين بتوبة نصوح، والتواب وصف مدح يمدح به العبيد.
المنزلة الأولى: أن يرتكب الشخص منكرا أو معصية بشكل عام، سواء أ كانت صغيرة أم كانت كبيرة، ويفعل ذلك بجهالة، ثم يتوب توبة نصوحا، ويحسن التوبة فيغفر الله له، فإن الله سبحانه يغفر الذنوب جميعا لمن أحسن التوبة، والتوبة في هذه الحال وصف مدح بلا شك، وخصوصا إذا استشعر التائب ما كان فيه، وأحس بالخضوع وأحسن التضرع، وكان تذكره للماضي حافزا على الاستمساك بحاضره، والاتجاه إلى ربه، وطلب المغفرة، فإن الإحساس بذل المعصية يدنيه من ربه، ويقربه منه.
و المنزلة الثانية، من التوبة وهي العالية السامية: أن يحس المؤمن التقي بمقام ربه، فيحس مع ذلك بالقصور في حقه، فيراجع ربه بالتوبة الحين بعد الحين، تداركا لما ظن من تقصيره، وما ارتكب في تقديره، فيكون توابا منيبا مستمرا في توبته.
و الله سبحانه يحب التائب في كلتا حاليه، وإن تفاوتت المنازل واختلفت الدرجات. ومحبة الله تعالى للتائبين رضاه عنهم، وإسباغ رحمته عليهم، فالمحبة رضا ورحمة وتقريب.
والمتطهرون هم الذين طهروا حسهم ونفوسهم، وظاهرهم وباطنهم.
و إن تذييل الآية بهذه الجملة السامية يفيد ثلاث فوائد:
أولها: إشعار المؤمن أن الله غفار للذنوب لمن ارتكب كما قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا...53} (الزمر).
ثانيتها: أن الله سبحانه وتعالى يحب المؤمن الذي لا يغتر بطاعاته، حتى لا يزين لنفسه كل أعماله، فقد يتأدى الأمر بمن يزين لنفسه عمله إلى أن يزين له سوء عمله فيراه حسنا، وإن الذي يستصغر حسناته فيكثر من التوبة قريب من ربه مستمتع بمحبته سبحانه وتعالى، وهي أقدس ما في هذا الوجود.
ثالثتها: أن طهارة الحس تؤدي إلى طهارة النفس، فمن كان طهور النفس لا يقبل أن يقدم على أمر مستقذر في ذاته، تعافه الطبائع السليمة، والفطرة المستقيمة.
يعالج الحق قضية التواصل مع المرأة أثناء فترة الحيض فيأتي التشريع ليقنن هذه المسألة لأن الإسلام جاء وفي الجو الاجتماعي تياران:
تيار يرى أن الحائض هي امرأة تعاني من قذارة، لذلك لا يمكن للزوج أن يأكل معها أو يسكن معها أو يعاشرها أو يعيش معها في بيت واحد وكذلك أبناؤه.
وتيار آخر يرى المرأة في فترة الحيض امرأة عادية لا فرق بينها وبين كونها غير حائض أي تباشر حياتها الزوجية مع زوجها دون تحوط أو تحفظ.
كان الحال إذن متأرجحا بين الإفراط والتفريط، فجاء الإسلام ليضع حداً لهذه المسألة فيقول الحق سبحانه وتعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهّرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين 222}
وقوله الحق عن المحيض إنه أذى يهيئ الذهن لأن يتلقى حكما في هذا الأذى، وبذلك يستعد الذهن للخطر الذي سيأتي به الحكم. وقد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت حيثيته.
إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية كيماوية ضرورية لحياتها وحياة الإنجاب. وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض؛ لأن المحيض أذى لهم.
لكن هل دم الحيض أذى للرجال أو للنساء؟ إنه أذى للرجال والنساء معا؛ لأن الآية أطلقت الأذى، ولم تحدد من المقصود به.
وبعد ذلك بيّن الحق أن كلمة {أذى} حيثية تتطلب حكما يرد، إما بالإباحة وإما بالحظر، ومادام هو أذى فلابد أن يكون حظراً.
{إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} وأراد الحق تبارك وتعالى أن يدخل عليك أنسا، فكما أنه طلب منك أن تتطهر ماديا فهو سبحانه قبل أيضاً منك أن تتطهر معنويا بالتوبة، لذلك جاء بالأمر حسيا ومعنويا.